ثانياً: الانتماء للوطنيات والدول، فإن هذه الوطنيات مرتبطة غالباً بما ذكرناه قبل قليل من أمر الشعوب وأيضاً لا نقصد إنكار محبة الإنسان الفطرية لوطنه كما قيل:
وحُبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلك |
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لكثير من البلاد الإسلامية فضلها، كفضل مكة والمدينة وجزيرة العرب واليمن، والشام، وعمان ومصر، إلى غير ذلك، فمجرد أن تكون منتسباً إلى وطن ليس مشكلاً، المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء بديل عن الولاء الأصلي، كما قال أحمد شوقي في قصيدته المشهورة:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه معبودا ولوا إليه في الدروس وجوهكم وإذا فزعتم فاعبدوه هجودا |
فتراه يستخدم الألفاظ الشرعية الخاصة بعبادة الله سبحانه وتعالى ويجعلها موجهة للوطن، ومن قصيدة للزركلي مشهورة يقول:
وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا |
وهناك في المقابل بعض التعبيرات التي لا تستحسن، مثل تحريف كلمة الوطنية إلى وثنية؛ لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً عند بعض الناس وأنهم يرون أن الإسلام ضد خدمة الإنسان لأهل بلده ومحبته لهم، وهذا ليس صحيحاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للجيران حقوقاً فالجار الأدنى له حق والجار الأبعد له حق، وهكذا الأقربون وهم أولى بالمعروف، وحق أهل بلدك عليك أكثر من حق الأبعدين إذا تساوت الحاجة، فليس هناك تناقض بين محبة الإنسان لوطنه، أو عنايته بأهل بلده تعليماً، ودعوة، وخدمة، وإصلاحاً، وغير ذلك وبين انتمائه للإسلام، إنما التناقض هو أن يكون انتماء الإنسان لوطنه بديلاً عن انتمائه لدينه أو على حساب انتمائه لأمته الإسلامية.
ثالثاً: الانتماء للقبائل: وهذا كثير، والله سبحانه وتعالى قد امتن علينا، فقال: {وّجّعّلًنّاكٍمً شٍعٍوبْا وّقّبّائٌلّ لٌتّعّارّفٍوا} فليست المشكلة في كون الإنسان ينتمي إلى قبيلة كذا أو كذا، إنما المشكلة هي العصبية لهذه القبيلة. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب..» رواه مسلم «934».
المشكلة النصرة بالباطل والمنافرة والمفاخرة والمباهاة، والحب والبغض وأن تكون هذه الأشياء هي علامة الولاء، فتجد الواحد يسعى إلى تقريب من كانوا من قبيلته في الإدارة التي هو فيها ولو كان غيرهم أكفأ منهم، وهكذا في التجارة وفي التزويج، وغير ذلك، فيكون هناك استقطابات داخل المجتمع المسلم، بل داخل البلد الواحد والمدينة الواحدة تجد نوعاً من التجاوزات والتحالفات هذا قَبلي، وهذا غير قَبلي، وهذا من قبيلة كذا، وهذا من قبيلة كذا، ويترتب عليه معان عظيمة وليست مجرد انتساب يقصد به التعريف فقط.
رابعاً: المذاهب والنحل: كالمذاهب الفقهية التي كانت في يوم من الأيام سببا للخصومة وسالت بسببها دماء، وقطعت بسببها أرحام وأواصر، بل ربما كانت في وقت من الأوقات فرصة لتدخل الأعداء وضربهم بلاد المسلمين.
خامساً: الشيوخ والقادة: فإن كثيرين يتعصبون لشيخ أو شخص، ويوالون فيه ويعادون، وربما يكون هو ممن ينهاهم عن التقليد، فيقلدونه، وينتقلون من تقليد الفاضل إلى تقليد المفضول.
سادساً: الجماعات والأحزاب: سواء كانت جماعات علمانية أو سياسية، فتجد كثيرين قد يرشحون شخصاً، وهم يعرفون أنه يطرح مشروعاً علمانياً، أو منحرفاً، ويرون أنهم يفصلون بين انتمائه السياسي وبين انتمائه الديني، المهم أنه من هذا الحزب أو هذه المجموعة، وهكذا الجماعات، والأحزاب الإسلامية التي يتربى الكثير من الأفراد فيها أحيانا على الانتماء إلى الجماعة والتشبع بمفاهيمها وأفكارها، ويكون هذا على حساب الانتماء العام ويقع بسبب ذلك نوع من الجفوة بين المجموعات.
ومما يضعف الانتماء العام المسائل والأغلوطات التي يتشاغل بها كثير من طلبة العلم؛ كمسألة العذر بالجهل، فقد أصبح كثير من الجماعات الإسلامية وطلبة العلم يفرزون إلى مجموعات: هؤلاء يعذرون، وهؤلاء لا يعذرون، أو مسألة الحاكمية مثلاً وما يتعلق بها، انقسموا أقساماً كثيرة بسبب اختلافهم في هذه القضية التي فيها مجال للاجتهاد، أو مسألة دخول العمل في مسمى الإيمان، هل يدخل أو لا يدخل؟
ولم تتحول هذه القضايا إلى قضايا علمية تبحث بهدوء وبنفس راضية، وتدارس للأدلة والوجوه، إذ لو كان الأمر كذلك لكان مطلوباً، ولكن المسألة تحولت إلى نوع من التجاذبات والتحزبات، حتى أن كثيرين ربما لا يتقنون هذه المسائل ولا يعرفون أبعادها ولا أدلتها، ولا درسوها، لكن هؤلاء تعصبوا لهذا، وهؤلاء تعصبوا لهذا، وترتب عليه قبولهم بهذا القول أو ذاك.
إن هناك عوامل كثيرة تدعونا إلى ترميم وحدة الأمة على الأقل من الناحية النظرية، من هذه العوامل:
1- التمزقات والفتن الداخلية التي تعصف بالمسلمين، وتجعلهم يضطربون إزاء كل قضية مستجدة تطرأ عليهم.
2- التحديات الخارجية، والمتمثلة على وجه الخصوص فيما نسميه «العولمة» عولمة السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والقيم، وأخيراً عولمة القوة.
إن الطريق أيها الأحبة طويل، ويحتاج إلى تربية وإعداد وبناء، ولا يجوز أن تسيطر علينا فكرة أنه لابد أن نقوم بعمل نشهد نتائجه بأعيننا، وأن يتم هذا العمل ويتحقق خلال الفترة الزمنية التي نعيش فيها على ظهر الأرض وعلى قيد الحياة، كلا بل ينبغي أن نقوم بعمل جاد ومثمر وفاعل ولو كان بطيئاً، وإن لم يظهر أثره إلا بعدنا.
ليس المقصود أن نشهد انقلابات على هذه الانتماءات التي تحدثت عنها، خصوصا ما كان منها انتماء مباحا، بل إن هذه الانقلابات أحياناً لا تزيد المشكلة إلا استفحالاً، لأنها تكون تكتلات جديدة، وتجمعات، وانتماءات حادثة بين من يؤيدون ومن يعارضون، وقد كان في الصحابة المهاجرون والأنصار، والإسلام لم يلغ هذه الأسماء، بل قررها وجعل فيها مجالاً للمنافسة في الخير والمسابقة في الطاعة، وحسن البلاء في الجهاد، وغير ذلك.كما أن الوحدة المفتعلة بين المسلمين لا جدوى منها الآن، فبعضهم قد يتحمس إلى توحيد الأمة، أو توحيد الجماعات العاملة للإسلام، أو توحيد العلماء مثلاً دون أن يكون عندهم تصور واضح عما يمكن التوحيد عليه، وعن البرنامج الذي يمكن أن يجمعهم والمنهج الذي يمكن أن يوحدهم.
ولكن نقول: يكفي التوقف عن الخصام والشقاق والتشاحن والبغضاء بيننا، وتحل محل ذلك أخوة الإسلام، وأن تبدأ أنماط معقولة من التعاون على البر والتقوى، وفي المشاريع المشتركة علمية كانت، أو اقتصادية، أو دعوية، أو إعلامية، أو غير ذلك، وأن نعمق وحدة العقيدة في الأمة، ونجتهد في تصحيح مفاهيم الناس حول القضايا الضرورية ومجملات الدين التي لابد من تعليمها لهم عن عقيدتهم، عن ربهم، عن نبيهم، عن قرآنهم، عن تاريخهم، ولو لم تتحقق وحدة الكيان الإسلامي بشكل عام في هذه المرحلة.
يكفي أن نربي الشباب في محاضنهم على أصل الانتماء لهذه الأمة، وألا تكون انتماءاتهم الثانوية بديلا عن هذا الانتساب العام..
والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه اجمعين.
|