Thursday 29th August,200210927العددالخميس 20 ,جمادى الثانية 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

تساؤلات تساؤلات
الموقف..!
منصور الجهني

كثير من المواقف التي نمر بها في حياتنا اليومية تستدعي إلى الذاكرة أحيانا وبشكل تلقائي بعض الأبيات المنطوية على شيء من الحكمة التي تجسد ذلك الموقف، إلا أن ما يلفت الانتباه على مستوى التجربة الشخصية، أن معظم هذه الأبيات غالباً ما تكون من قصائد أبي الطيب المتنبي، وربما لا عجب في ذلك طالما أنه مالئ الدنيا وشاغل الناس، لكن الملفت أنك في كل موقف تمر به رغم تباين المواقف والظروف تجد لدى ذلك الشاعر ما يعينك على التشاؤل وتجاوز مرارة الموقف، فمن منا لم يردد ذات يوم بينما هو يقف بين يدي أحد موظفي الإدارات الحكومية أو حتى أحد المسؤولين:


لا خيل عنك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

وفي مرحلة مبكرة قبل أن أعي من هو أبو الطيب كنت أتهجى كل يوم في طريقي إلى المدرسة ذلك البيت المنقوش على أحد جدران الطين المتداعية:


ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

وبينما تقرأ في حصة المطالعة حكاية الثعلب الذي قد لا يقل حكمة عن أبي الطيب مع دالية العنب والعنقود الحامض حلو، أفكر في ذلك المسكين الذي كتب بيت الشعر قبل أن يواصل تشاؤله بعيدا عن النافذة المغلقة لحبيبته.
ويبدو أن هذا التشاؤل هو قدر الإنسان العربي وخصوصا المثقف الذي يحاول تخطي إحباطاته الكثيرة، قبل سعيد أبي النحس وإميل حبيبي وحتى قبل المتنبي أيضا، الذي يمكن اعتباره سيد المتشائلين، ربما تحت وطأة أحماله الثقيلة، وأوهامه المستحيلة، وحتى تحت وطأة ذاته المتضخمة، في محاولة لجسر الفجوة الكبيرة بين خياله الجموح، وبين واقعه المعاند:


إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم

هكذا يتشاءل أبو الطيب في مسيرته نحو طموحه الكبير، متكئاً على شعره، الذي يشكل سلاحه الوحيد، في مواجهة العالم، تارة بالحكمة التي تشكل معادلاً موضوعياً لتبرير الفشل وإعادة التوازن إلى الذات:


وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام

وتارة بالمواجهة، والتحدي، والتهميش لكل ما عدا ذاته:


لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي

وككل المتشائلين قد يضطر أحياناً إلى التضامن ومجاراة الواقع، متخلياً عن كبريائه الوهمي:


غير اختيار رضيت بركبي
والجوع يرضي الأسود بالجيف

هذا الاضطراب والتحول المستمر في حياة ذلك الشاعر
على قلق كأن الريح تحتي
وكذا تنقله الدائب بين أمكنة عديدة، وثقافات متنوعة، جعله عرضة لكثير من المواقف والتجارب التي أكسبته الخبرة بالحياة والناس، لذا ربما يمكن القول إن الحكمة في شعره، مستمدة من الواقع والتجربة، وليست حكمة فلسفية أو تأملية كما هي لدى أبي العلاء المعري مثلاً شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، ومن هنا أيضاً نجد أن حكمة أبي الطيب أكثر حضوراً في حياتنا اليومية، وتنعكس في كثير من المواقف، سواء الذاتية أو الاجتماعية، كما أنها تعبر بشكل صادق ودقيق عن الكثير من أحوالنا، خاصة في تلك المرحلة التي كثيرا ما تستعاد فيها بعض أبياته، التي تجسد واقعنا الحالي بكل تداعياته، وكأنها كتبت خصيصا للتعبير عن هذه المرحلة.
ومع ازدياد حالة التنظير المجاني، وازدهار سوق الشتائم عبر الفضائات فإن الجميع أصبح يردد:


من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

ولم نعد نميز الميت من الحي، وإن كنا نلمس الجرح أحياناً، وطالما أن مصارعة أشباح العدو بطريقة دونكشوتية عبر فضاء الأستديو المكيف، لا تتطلب من مناضلي الاستديوهات أكثر من بعض الحركات الإيمائية، والصوت الصاخب، دون أي تماس حقيقي مع الواقع، ودون تقديم أي مساهمة فعلية في مواجهة قضاياه، فإن أبا الطيب قد يخذلنا هذه المرة، عندما نحاول تطبيق قوله:


لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجوع يفقر والإقدام قتال

على حال هؤلاء، فهم أصبحوا أبطالاً دون مشقة ولا إقدام، لماذا خدعتنا إذن أيها الشاعر الحكيم؟


غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
إن حدثوا شجعوا أو قاتلوا جبنوا

ومع أن أبا الطيب لم يسلم من الاتهامات في عصره، إلا أنه لو عاش في عصرنا، سيواجه تهما مضاعفة، وربما يتهم بالعلمانية لا أدري ماذا تعني لانه غالباً ما يسعف أحد أصدقائنا في نقاشه مع صديق آخر عندما يستعيد صوته:


أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

لكنني أطلب من الصديق الآخر قبل أن يتهم المتنبي، أن يبحث في شعره فقد يجد ما يمكنه من الرد.
وفي كثير من المواقف والأحوال التي يصعب استعراضها، فإن صوت الشاعر يتسلل دائماً عبر الزمان ليكون شاهداً على تناقضات الذات الإنسانية، في صراعها المستمر مع الحياة، لذلك ربما لا أتعجب عندما أسمع شخصاً، لا يجيد القراءة والكتابة، ولم يسمع ربما بالمتنبي، يستعيد في موقف ما قوله وإن كان بلغة ركيكة إذا أنت أكرمت الكريم.. الخ.
وإذا كنت أعتقد أن من يقدمون أرواحهم وأجسادهم في سبيل حرية وكرامة الوطن، قد قرأوا، وربما استحضروا في ذات اللحظة التي يستعدون فيها للتضحية قول شاعرنا:


كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا

فإنني لست متأكدا فيما إذا كان الذين يجلسون مع العدو على طاولة المفاوضات يستحضرون في ذات اللحظة قوله:


ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد؟

أو ربما أنه تكون أمامهم خارطة أخرى للقيم؟

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved