Sunday 4th August,200210902العددالأحد 25 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مجروح قلبي.. يا أبت!! مجروح قلبي.. يا أبت!!
ويمضي الزمان.
عبدالله يحيى المعلمي*

ويمر عامان على رحيل أبي فيسألونني.. ماذا بقي لك من يحيى المعلمي!! فقلت لم يغب عني والدي منذ رحيله لحظة واحدة إلا بجسده، فأنا أشم رائحته في كل موقع أعرف أنه قد احتضنه يوما من الأيام، وأنا أسمع صوته يناجيني في كل أمر يشغل فكري أو موضوع يؤرقني، وأنا أرى صورته تطل عليَّ في كل رجل أراه فيذكره بالخير ويترحم عليه، وهو معي في كل ركوعي وسجودي ودعائي، وهو معي في كل دمعة أذرفها كلما مر في خيالي طيفه أو استذكرت قصة معه أو عنه.
أنا إن سئلت.. ما الذي بقي من يحيى المعلمي قلت بل ماذا غاب عني من والدي..
يقول الناس: إن كل شيء يكبر مع الزمان إلا لوعة الفقد فهي تخبو.. أما أنا فأقول: مجروح قلبي يا أبت.. فلقد كان أبي شمس حياتي.. ولقد كان أبي إكليل غاري.. واسمحوا لي أن أحدثكم عن شيء من خصاله كما نراها في بعض أشعاره.
كان يحيى المعلمي شديد الاعتداد بالنفس.. وكان يكاد لا يترك مناسبة دون أن يذكر فيها شيئاً عن ذاته أو قدراته أو تراثه.. ولقد أدى ذلك في بعض مراحل حياته العملية المبكرة إلى تأفف بعض رؤسائه ممن رأوا في مثل هذه الثقة بالنفس تحدياً لهم أو تجاوزاً لمكانتهم.. ففي منتصف السبعينات الهجرية تحدث مسؤول عسكري كبير في خطاب ألقاه أمام جلالة الملك سعود رحمه الله معتذرا عن أنه ليس خطيباً مفوها أو شاعراً ملهماً وانه لا يجيد صناعة الكلمات وإنما هو ضابط فحسب.. وكان من الصدفة أن يأتي بعده الضابط يحيى المعلمي ليلقي قصيدة بعنوان «صفقت مكة والبيت ابتسم» جاء فيها:


يا سليل المجد عفواً إنني
أنا من ضم السيف إلى القلم
إن نظمت الشعر حلواً رائعاً
صغت من ألحانه عذب النغم
أو نضوت السيف في يوم الوغى
خلتني عند اللقاء ليث الأجم
ضابط حيناً وحيناً شاعر
وكلا الأمرين من عالي الهمم

فاستشاط المسؤول غضباً واعتبر أن هذه الأبيات التي اختتم بها والدي قصيدته موجهة إليه.. ولعل في ذلك ما يعكس فارق الثقة في النفس بين الشخصيتين.
وفي مناسبة أخرى، نظم والدي قصيدة أهداها إلى خادم الحرمين الشريفين وكان أثناءها ولياً للعهد وهي بعنوان «فهد الفهود».. ولم يترك والدي تلك المناسبة تمر دون أن يشير إلى شيء من شخصيته وتراثه فقال:


أزف إليك وداً مستطاباً
وأخلص في الإطاعة والولاء
ولست اليوم في الإخلاص بدعاً
ولكني عريق في الفداء
فقبلي والدي أضحى شهيداً
قتيلاً قد تضرج بالدماء
يفدي العرش بالأنفاس منه
ويبذل روحه تحت اللواء

وكان يشير بذلك إلى استشهاد والده نصرة للملك عبدالعزيز أثناء إمارة الجد الشهيد على إمارة أبي عريش في أواخر الأربعينات الهجرية.
وفي المعنى نفسه قال في قصيدة ألقيت أمام الملك سعود رحمه الله:


مولاي ما أنا شاعر لكنني
قلب تمكن من هواك وفاؤه
هو من غراسك نبتة ريانة
وعلى جزيل الفضل منك نماؤه
لم يكتسب صدق الوداد وإنما
مزجت به حين الرضاع دماؤه

وما كان من الشاعر القدير الأستاذ أحمد بن إبراهيم الغزاوي إلا أن بادر سيدي الوالد بالتهنئة على قصيدته وبشكل خاص على البيت الذي قال فيه:


لم يكتسب صدق الوداد وإنما
مزجت به حين الرضاع دماؤه

ذلك أن الغزاوي قد أشار إلى معنى مشابه في قصيدة ألقاها قبيل إلقاء والدي لقصيدته ولكنه فصل المعنى في بيتين، ورأى أن تضمينه في بيت و احد يدل على
شاعرية استعصت عليه.. وبقدر ما كانت إشادة الغزاوي بشاعرية سيدي الوالد شهادة له إلا أنها كانت أيضاً شهادة للغزاوي، فمثل هذا الإطراء لا يقوله إلا شاعر متمكن واثق من قدرته ومكانته.
وقبيل وفاته رحمه الله نظم والدي قصيدة بعنوان «جنادرية شعرية» تشرفت بإلقائها نيابة عنه بين يدي صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد حفظه الله وكنت أثناء إلقائها أتحاشى النظر إلى والدي الذي كان يجهش بالبكاء لحظتها، وكان في الليلة التي سبقتها قد استلم وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة الذي منحه إياه خادم الحرمين الشريفين باعتباره رجل الثقافة لعام 1420ه وقلده إياه صاحب السمو الملكي ولي العهد، وبعد عودتنا من الحفل قال لي والدي «الآن أموت قرير العين!!».
ومع أن هذه القصيدة قد جا ءت في خريف العمر، إلا أنها لم تخل من عنفوان الاعتداد بالنفس حيث قال فيها:


يا قريضي وأنت خير سفير
للمحبين منذ عهد باكر
والمعالي بكل صقع وصوب
تيمنني.. فصرت هيمان حائر
صيرتني مدلها في هواها
بطموح، ملء الحنايا يخامر

إلي أن يقول:


ويميني كم سطرت صفحات
كنت فيها محرراً.. أو ناشر
فوق متني حملتها، بطواف
في البرايا: معلماً ومثابر
أرقتني وسهرتني الليالي
بين كتب وبين عطر المحابر

ولعل الشعراء عامة يجدون في مثل هذه المناسبات والأحداث ما يستوجب التفاخر والاعتداد بالنفس، وأستشهد على ذلك بقول والدي:
أنا لا أهوم في الخيال وإنما
تذكي فؤادي المكرمات وتشعل
إلا أن الملاحظ أن والدي في أشعاره الغزلية، على ندرتها، لم يتخل عن هوايته في الاعتداد بالنفس، فها هو يفتتح قصيدته الغاضبة «ثورة على الحب» بقوله:


ليس بيني وبينها أي عهد
فليكن قلبها لمن شاء بعدي

إلى أن يقول:


هي ظنت قلبي أسير هواها
كبلته بألف قيد وقيد
نسيت أنني نبيل شجاع
لا أبالي بسطوة المستبد

وعندما عاد في قصيدة مسالمة عنوانها «استسلام»، وبالرغم من الطبيعة المهادنة لهذه القصيدة، إلا أنه لا يفوته أن يذكر الملأ باعتداده فيقول:


قد كنت عن حبك في منعة
محارباً كالفارس المعلم
وكنت مثلي فغلبنا معاً
وها أنا استسلمت فاستسلمي

رحمك الله يا والدي.. فلقد كنت اليوم حقاً فارساً معلماً ومعلماً.
والحمد لله على كل لحظة أمضيتها معك أو مع ذكراك حياً أو ميتاً، وهنيئاً لي بكل دمعة تختال على وجهي فرحاً بك وزهواً وفخراً وأنا أكتب عنك أو أقرأ لك.
وسلام عليك في مرقدك.. والله أسأل أن يجمعني بك في عليين.. مع الأنبياء والشهداء والصديقين.
وواحر قلباه على فراقك.. اليوم وكل يوم.
* أمين مدينة جدة

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved