العراق ذاكرة ثقافتنا العربية الإسلامية، عمقنا الحضاري في ذاكرة الزمن، مستودع تراثنا، لغتنا المصقولة بين مدارس الكوفة والبصرة، بين الحكمة، مربد الشعراء، زوايا الفقهاء، تكايا الصوفيين، أروقة الفلاسفة، معامل الخيميائيين.. وأصحاب الحيل (الميكانيكيين)، اصطرلابات الفلكيين.
العراق صوتنا القادم من أعماق التاريخ، ظلنا الذي يكبر معنا وفينا، منذ خطواتنا الأولى، عندما كنا ننام على أصداء حكايات الجدات، التي فتحت خيالات طفولتنا على فضاءات شاسعة مزروعة بالأحلام والكوابيس.
عندما بدأنا الركض في الطرقات، كنا نبحث عن سندباد القادم من بغداد ليحملنا في سفينة بعيداً حيث الجزر المسحورة والعنقاء، وعلي بابا.
ثم عندما بدأنا نتجاوز فضاءات دهشتنا الأولى إلى أقفاص الحواس، كنا نتسلل من خلف الجدران والنوافذ المغلقة إلى ليالي بغداد، نتتبع خطوات أبي نواس في رحلته الليلية، دون أن يحس بنا، ومن خلف اكتافه نتطلع إلى قامة «جنان» نحس وقع انفاسها وهي تغني أو وهي..، كنا نتسلل خارج الوقت، لنسكن زمناً آخر نتوه فيه بين حدائق ألف ليلة وليلة، وقباب قصورها الذهبية، نتطلع من بين جذوع الأشجار، والأغصان المثقلة بفواكه الحلم إلى ظلال البرك الفضية، وحين يطول بنا الانتظار دون أن تدلي جارية بلّور ساقها في مياه خيالنا العميق، نكسر مصباح علاءالدين، ونلوذ بعتمة ليلنا الطويل المسكون بالملل، وقد نردد مع مسلم بن الوليد: وما العيش إلا أن تبيت..ثم لا نجرؤ على اكمال البقية، فنمضي بتكاسل شديد خلف الصبي أحمد بن الحسين وهو يدلف إلى دكاكين الوراقين في الكوفة، نقرأ معه اشعار الجاهليين أو عمر بن أبي ربيعة أو جرير، وبينما يحفظ الفتى قصائد عديدة نتهجى بصعوبة بعض الأبيات وعندما جاوزنا حدود الطمأنينة إلى فضاءات القلق، تفرقت بنا السبل في اتجاهات عديدة، كانت بغداد نبعاً يتدفق في كل الاتجاهات ويصب في بحر المعرفة، وكانت كل طرق العلم تؤدي إلى بغداد قبل أن تصل إلى روما، فالذين اتجهوا إلى الرياضيات كان صوت الخوارزمي يعبر القرون متسللاً إلى أوراقهم، والذين اتجهوا إلى الفيزياء كان لابد لهم من المرور عبر مرايا ابن الهيثم قبل أن يصلوا إلى بؤرة الضوء البعيدة، وفي وجهة الطب كان كتاب الحاوي لأبي بكر الرازي يمثل بيمارستان العالم الذي لابد لكل الأطباء من دخوله قبل أن يكتشفوا بعض أسرار الجسد، وفي الفلسفة توزعت الأصوات والأهواء بين الكندي وأبي حامد الغزالي، وفي الفقه بين النعمان وأحمد، أما في الشعر والأدب والفنون فإن كل صوت عبر الزمان هو صدى لتلك الأصوات العديدة التي شكلت عبر القرون الذائقة العربية، وصقلت ملامح النقد والابداع، ولأنه يستحيل تهجي تلك الفسيفساء البديعية المكونة من ألاف المنمنمات الساحرة، فإنك لا تملك إلا أن تقف طويلاً أمام هذا المشهد، وكأنما تبحث عن شيء ما مفقود، ربما عن ظلِّك التائه بين مرايا العصر العملاقة، عن صوتك المصادر، كأنما تتحسس هذا النزف القديم الجديد الممتد ما بين سيف تيمور لانك ودبابة هولاكو.
كأنما تصغي إلى حوافر خيل قادمة هي بالتأكيد ليست خيل الرشيد ولا طلائع جيش المعتصم، لكن خلف الروم كما قال أبو الطيب روم، وكأن كل الحبر الذي أراقه التتار من أوردة الكتب لم يكن كافياً لترضع الأسماك تاريخ الحكمة، لكن ماذا يمكن أن تتعلم الآن، بعد أن رضعت من النهر جنون الكيمياء؟ ربما ستعيد للصيادين شباكهم مثقلة برائحة الموت، لكن ذلك لن يهم تيمور لانك طالما أنه قد استبدل سمك النهر بكافيار القيصر ماذا إذن عندما يصطبغ النهر بدماء الأطفال، هل يرضي ذلك غرور سيد روما؟!
لكن حتى ظل نبوخذنصر لم يعد موجوداً أيها السيد، فلماذا الإصرار على النار؟ قد تكون اشباح الأطفال كافية لتجريب أحدث الأسلحة الذكية.
منذ متى راح القمر ينأى عن الشرفات، ويحول وهج الحضارة إلى طلل شاحب في معلقة الزمن الرديء، منذ متى غادرت العصافير غابات نخيل البصرة ومنارات بغداد وتشتت في صقيع المنافي تاركة وراءها ظلاً شاحباً وربما هو ظلنا، هل سنفقد الذاكرة.. ونغني للموت القادم من الغرب؟!
|