Saturday 27th July,200210894العددالسبت 17 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

عقْد المزايدات واستفزاز الشعوب عقْد المزايدات واستفزاز الشعوب
د. خليل بن عبدالله الخليل

استطاعت «منظمة القاعدة» أن توظف مشاعر الإحباط لدى الشعوب العربية والإسلامية في خدمة مبادئها وانطلاقاتها وأهدافها، ولم يتوان الغرب في تنفيذ نظرياته ومخططاته الاستراتيجية إزاء «الأعداء التاريخيين المتجددين» أعداء الحضارة وأعداء الأمن والسلم الدوليين.
القاعدة مثل غيرها من الحركات الراديكالية في التاريخ سلكت مسلك المزايدات مع القيادات الدينية والسياسية فهي إدعاء الأنقى دينياً، وهي الأصدق والأحق سياسياً.
لم يقف أمام أمريكا إلا رجالها المجاهدون الأبطال (هكذا تزعم) الذين ساروا على خطى «السلف» فعفوا عن الدنيا وزخرفها.. مؤثرين أدغال وكهوف أفغانستان على رفاهية «الخليج»، فجابهوا رأس الكفر والطغيان «أمريكا» وربيبتها «إسرائيل».. بلا خوف ولا مجاملة ومن دون سلام أو استلام.
لذا، وجدت «منظمة القاعدة» تأييدا سياسياً عاماً، ولسان حال المؤيدين يقول: سئمنا من الحلول «المتعلقة» فدعوا الحلول الأخرى تلعب دورها وأولئك القوم لم يستشيروا احداً، بل ان مثلهم مثل فئات «المغامرين» الغربيين الذين انتشروا في القرن السابع عشر الميلادي فاستطاعوا ان يجوبوا العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.. بحثا عن العوالم والمغانم مستخدمين كافة أنواع السبل ومنها القوة والعنف، والغرب ينظر إليهم في أدبياته بعين الرضا والإعجاب بل انهم أصبحوا عنوانا للحرية الغربية والرومانسية الإنسانية في اسمى صورهما. إنهم -في القاعدة- المغامرون المجاهدون لنصرة العدل ولقمع الظلم، ولإعادة الحقوق المسلوبة.
إذن اللغة الصامتة في العقل الباطني لبعض قطاعات الأمة الإسلامية المجروحة تقول: دعوها فالغرم لهؤلاء والغنم لنا ولأمتنا. دعوهم يموتون لنحيى، فالغرب يحتاج لصفعات والعالم الإسلامي يحتاج لصعقات.
في الطرف المقابل القوى الغربية بزعامة أمريكا التي كسبت تأييداً وسجلت مواقف غير مسبوقة سياسياً وقانونياً بسبب قفزها على أسوار الحدود السياسية والقانونية وتصديها للخطر الوهمي على الغرب ألا وهو «الإسلام السياسي» و«الشمولية الإسلامية» والقنبلة الموقوتة» و«الهلال الأخضر» و«الإرهاب الإسلامي» و«الأصولية الإسلامية» و«أعداء الحضارة الغربية» وغير ذلك من الاصطلاحات التي أجاد في صنعها الإعلام الغربي للتخويف من العرب والمسلمين الى اقصى الحدود.
ذلك الطرف الغربي المتهور ينطلق «مزايداً» على القيادات السياسية والدينية في بلاده أيضاً فهو الممثل لروح المواطنة الحقة الذي يريد خدمة وسلامة أرض الوطن، وهو الذي حمل روحه على كفيه فبقى في «البيت الأبيض» رغم طلب الأمن السري ان يختبئ في مكان مجهول لوجود حرب خطيرة تستهدف بيت العزة والكرامة! هو الذي يريد اعادة دور الدين ورجاله لأن المؤسسين كانوا متدينين روحياً وليبراليين عقلياً والدين أساس «أمريكا» المحافظة، وهو الذي لن يقبل إلا ب«الحصانة» الكاملة لجنود امريكا في البوسنة والهرسك وغيرها عند المشاركة في قوات حفظ السلام، ويفترض أنهم لا يحاكمون ولو أخطأوا.. فهم قادة العالم وسادته كما أنهم حماة العدل والسلام، والحرب التي يشنونها على العالم «حرب عادلة»، ومن لم يشاركهم في حربهم العادلة الشاملة فهو مع الإرهاب!.
ثم ان الأعداء يصنفون قانونياً وفق مزاجه الذي لا يصفو إلا في أجواء الحروب وضجيجها.. فلا حقوق للأسرى بجزيرة «قوانتانامو» في كوبا، ولا محاكم مدنية في المشتبه فيهم في أمريكا، وإنما يحاكمون في قواعد ومحاكم عسكرية لأنهم «إرهابيون» فهم ليسوا «أسرى حرب» ولا «مجرمي سلم» وتتفنن عبقرية «المزايدات» و«المراوغات» عن صناعة اصطلاح جديد ألا وهو أن المحاربين في صفوف «القاعدة» والمخطوفين من أرض افغانستان والباكستان والمرحلين منهما ومن غيرهما ليسوا إلا «عناصر إرهابية» لا تنطبق عليهم الاتفاقات الدولية التاريخية مما حرمهم من التأمين الدولي لأسرى الحروب وزج بهم في متاهات الاصطلاحات السياسية والقانونية التي لا أساس لها ولا نهاية.
تمضي «المزايدات» لتهدد القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية فلا حرمة لدولة.. ويحق لأمريكا ان تتدخل في المناهج الدراسية وأحكام القضاء، وخطب الجمعة والقطاع التطوعي، وبرامج التلفزة، ومقالات الصحافة، ورسوم الأطفال، ومدخرات المكتبات العامة، والمؤتمرات المعقودة في دول ومجتمعات مستقلة مستقرة.
مراوغات ومزايدات أثارت عشرات بل آلاف التساؤلات بشأن مستقبل العالم، وأشعلت مشاعر الغضب والكراهية على الحضارة المسيطرة، وكرست «نظرية المؤامرة»، وحيرت المفكرين المعتدلين، وأسعدت معسكرات الراديكالية ودعاة «صدام الحضارات» لدى الطرفين المتخاصمين.
يا ترى من الخاسر ومن الرابح في هذا العقد الذي أطلقت هيئة الأمم المتحدة على السنة الأولى منه «عام حوار الحضارات»؟.
كان العالم متفائلاً لانتهاء «الحرب الباردة» ولتوحد الدول الأوروبية اقتصادياً.. مع ميلاد عملة واحدة وهي «اليورو»، ولعودة بعض الدول الموصوفة بالراديكالية الى «بيت الطاعة» وقبولها ببروتوكلات وطقوس المجتمع الدولي مثل إيران وليبيا والسودان، ولتقارب العالم بفضل الخطوط الالكترونية التي تخطت الحدود الجغرافية والسياسية والحضارية وفرضت لغة دولية مشتركة تمكن من تسهيل الاتصال والتواصل بين الدول والحضارات.
كان العالم في انتظار الحوار والوئام في العقد الأول من الألفية الثالثة، إلا ان الذي حصل بعد هجمات 11 سبتمبر من عام 2001م هو العكس تماماً.. النفرة والصدام، بل الحرب والخصام على مستوى القارات والحضارات والدول والجماعات، وكان «الإسلام» بعقيدته وشريعته وتشريعاته وجماعاته ودوله ومؤسساته الرسمية والتطوعية هو العدو المستهدف من دون حاجة الى مبررات ومعاذير.
صنعت المراوغات والمزايدات في «عقد الحوار والتفاهم» «انقلاباً» حضارياً على المصداقية الفكرية والقوانين الدولية، والأعراف الدبلوماسية.
وكانت النتيجة قاسية ومكلفة، فهناك انتكاسة في مجال حقوق الإنسان وهناك تراجع في العلاقات الدولية، وهناك تخبط في ميادين الفكر والإدارة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، وهناك تحفز من قبل الشعوب الغربية والشعوب المسلمة كل ينظر للآخر بعين الشك والريبة.الإنسان الصادق هو الخاسر في الشرق والغرب، والمبادئ السامية النبيلة هي الخاسرة في الشرق والغرب، والدول المستقرة هي الخاسرة في الشرق والغرب، والتجمعات الوسط المعتدلة في الحضارات هي الخسارة في الشرق والغرب.
ماذا كسب العالم العربي والإسلامي من «المزايدات» التي سلكتها منظمة القاعدة؟ وماذا كسبت الدول التي ينتمي إليها أعضاء منظمة القاعدة؟ وماذا كسبت السلفية السياسية الثورية التي تبنتها منظمة القاعدة؟.
باختصار ضربت الحيرة أطنابها في العالم العربي والإسلامي، واتهمت الدول التي انطلق منها اعضاء تلك المنظمة وانحسرت الايدلوجية الدينية التي تبنتها تلك القاعدة.اختطفت «القاعدة» الإسلام من الأيدي الأمينة والعقول الرصينة والقلوب المؤمنة الصادقة المتنامية في بقاع المعمورة، وزجت به في حمم الشكوك والعنف والتهم والصدام والخصومة، وهي لا تملك العدة لإنقاذ نفسها فضلا عن ايصال رسالتها وبناء المجتمع الذي تنشده على يد حركة طالبان.
إن العالم الإسلامي ليس معها بالشكل الذي يمكنها من الصمود، وهذا لا يعني ان العالم الإسلامي لا يدرك حجم المؤامرات عليه ولا يعني انه في حالة استسلام دائم، ان يتطلع للنهوض والمنافسة، ولكن سنن الله الشرعية والكونية -حسبما نعلم- تأبى أن تمنح أمثال منظمة القاعدة الفرصة للبقاء والنماء والانتصار، وذلك يعود - بالتحديد- لعدم «تكافؤ» إمكاناتها الفكرية والمادية مع تطلعاتها ومع حجم امكانات الأعداء.
من هنا يمكن القول باطمئنان، ان ما قامت به تلك المنظمة يمثل «انتحاراً حضارياً» سوف يؤخر العرب والمسلمين عقودا متتابعة، وقبول ذلك الفكر دليل على غياب «الرؤية الإسلامية» السليمة لدى الكثير من الشعوب والتجمعات الإسلامية والدعوية، ومؤشر على الابتعاد عن «المنهجية السلفية الصحيحة»، وعلامة على الفجاجة السياسية، ونموذج من نماذج استخدام القوة في غير محلها باسم الدين بصرف النظر عن نوايا المجاهدين والمغامرين ومقدار عزمهم وحزمهم وتقواهم.
بيانات وتهديدات وهجمات توحي بقوة ضاربة تساندها أمة مقتنعة جادة، والواقع بخلاف ذلك.
إنها المغامرات والمزايدات في عقد التطرف والتخاصم والتصادم، مما منح أعداء العرب والمسلمين أفضل المواقع في النصف الأول من القرن الأول في الألفية الثالثة.
واذا سبرنا غور الطرف المقابل تحت زعامة «امريكا جورج بوش الابن» فتساءلنا عن المكاسب التي جنتها امريكا من شن الحرب على الارهاب حسب مفهومها، وعن مدى نجاح تلك الحرب فإننا نستطيع القول: ان امريكا زجت بنفسها في حمأة حرب خاسرة ماديا وحضارياً.
إنها حرب على مجهول ولن تستطيع امريكا ان تكسب الكثير. وربما تكون النتيجة عكسية.. فتكسب اشعال بقاع الأرض ضدها.. لتنحسر خلف المحيطات ولتعود دولة «نامية» لا «متطورة» مثلما عاد الاتحاد السوفيتي السابق بعد تفتته وسقوط امبراطوريته.
أثبت التاريخ ان دمار وانحسار الامبراطوريات يأتي من انتشارها خارج حدودها واشعالها الحروب، واعتمادها على القدرات العسكرية في علاقاتها ونسيانها لقضاياها الداخلية، وهذا ما حصل للامبراطورية الاسبانية والنمساوية والهولندية والعثمانية والفرنسية والبريطانية.
ميزانية الحرب في امريكا «370» مليار دولار لعام واحد أقرها مجلس الكونجرس، وطلب الرئيس الامريكي إقرار ميزانية قدرها 135 مليار دولار لإنشاء وزارة متخصصة في الأمن الوطني لمجابهة الارهاب داخل امريكا. إنها المزايدات التي تعمدت توظيف الأحداث وفق استراتيجية مدروسة للحصول على أعلى قدر من المكاسب إلا ان امريكا لم ولن تكسب الكثير ويكفي أنها فقدت الحرية والأمن داخل حدودها.
مناورات ومزايدات تعلن كل يوم اكتشاف خلايا للإرهاب، وتهدد بشن الحروب على دول مستقلة، وتسعى لاسقاط أنظمة سياسية، وتصنف العالم الى محاور «محور للشر» و«محور للخير» وليس هناك قانون في الكون يستطيع اخضاع «صاحبة الجلالة» امريكا للعقل والمنطق. لذا، هي وحدها القادرة على ان تجعل من المجرم إيريل شارون رجل سلام، وان تبرر المجازر الإسرائيلية الرعناء ضد الفلسطينيين العزل.
لقد قوضت الحرب على الارهاب -مع أن لها ما يبررها سياسياً لو التزمت بالحدود المعقولة- أركان الحضارة الغربية التي رأى الكاتب الامريكي فوكوياما أنها «نهاية التاريخ» بمعنى قمته، وأعدمت بسياساتها الفجة وانحيازها الأرعن لإسرائيل روح المصداقية والحرية والديمقراطية في وضح النهار.إنه عقد المزايدات التي دمرت القيم، واستفزت الشعوب وأعادت التاريخ الى الوراء، وفرضت «الصدام»، والأغلبية المتحفظة التي تعرف دوافع ذلك الصدام وآلياته وعواقبه تستهجنه وتدينه، وترفض المشاركة فيه حسب ما يريد الطرفان المزايدان المتهوران مهما ارتدت الزعامات في معسكريهما من أردية القداسة الدينية رفعت من شعارات «السلف»، ومهما كسبت في ميادين الانتخابات الديمقراطية من شرعية وشنت على العزل من الغارات والحروب.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved