الشعر الاخواني، والمداعبات، والمطارحات بين الأصدقاء نوع قديم من الشعر.. وجد وعاش في جميع الحقب والعصور.. منذ العهد الجاهلي وحتى اليوم؛ حتى مع اختلاف الرؤى والأفكار والمفاهيم ومستجدات الحياة والتطورات الانسانية.. مما يفرض أغراضاً ومضامين وصياغات متنوعة تستجيب لموحيات النفس وانبثاقاتها مع طبيعة العصر.
وحيث إن هذا النوع من الشعر قديماً وحديثاً هو من الكثرة بحيث لا يحاط به إلا في دراسات موسعة ذات مجلدات عديدة، وليس من طبيعة زاوية صحفية كهذه أن تدخل دهاليز ذلك البحر الخضم. لذلك أردت هنا أن أقدم قراءة سريعة لقصيدتين جديدتين من هذا القبيل بين شاعرين «عنيزيين» نشرتا في هذه الصحيفة «يوم السبت 10 جمادى الأولى 1423هـ» أي منذ ثلاثة أيام.
ومرتكز القصيدتين تهنئة من الأول وهو الشاعر أحمد الصالح الى صديقه الشاعر سليمان الشريف.. تهنئة وتسرية من الأول، وتفاعل من الثاني.
الشاعر سليمان الشريف دخل المستشفى وأجريت له عملية سحب ماء من عينه. فوجدها الشاعر أحمد فرصة ليهنىء ويُسَرِّي عن صاحبه.. ووجد الشاعر الشريف في القصيدة ما جعله يرد التحية بمثلها وعلى نسقها وموالها وزنا وقافية.. وهي كذلك طريقة القصائد الاخوانية.. غالباً.
***
حفلت كل من القصيدتين بالكثير من الكلمات الدعابية وخفة الروح في كل منهما. جاءت الأبيات الأولى من قصيدة الأستاذ أحمد شبه دعاء.. أو هو دعاء بدون أدوات الدعاء التي يلقيها الزائر على المريض المزور..
عيناك ما مَسَّتهما وعكة أو عارض إلا وكانت طهور ونلتَ أجر الله لا قانطا من الشفا أو من عظيم الأجور وزال عنك البأس يا شاعري بإذن من يشفي السميع البصير |
وتركيبة الشطر الثاني من البيت الثالث التعبيرية ضعيفة لايهامها بغير ما يقصده الشاعر.. فسياق «السميع البصير» كأنها مفعول في حين أراد الشاعر أنها «فاعل» يشفي. ولتفادي ابهام كهذا كان الأفضل ايجاد فاصل من ضمير أو نحوه. هذه الملاحظة الصغيرة لا تؤثر أو تقلل من جودة القصيدة وبخاصة أن أحمد الصالح شاعر مُجيد ومجوّد.
ولقد سَرَّى الشاعر أحمد كثيراً عن صاحبه بعدة أبيات.. ثم حول مسار هذه التسرية الى ما هو أرق وأكثر إيثاراً للمُسرَّى عنه من خلال انطلاقتها من تهنئة وتسرية الى أوصاف غزلية تسيل لعاب العاشقين والهائمين في الحب والجَوىَ.. من نحو «الغيد، الملاح، البدور، الحسان النحور، ذوات الخدور».. إلخ.
وتكتب الأشعار إن وسوست شيطانك الغيدُ، الحسان، البدور وأرسلتْ من سحرها فتنة تأخذ بالألباب شيخا وقور |
أما وصف الشريف ب«الشيخ الوقور» فأنا أوافق على الثانية وأعارض الأولى فسليمان الشريف ما زال في ريعان الكهولة - كما أحسب - وربما هو وأحمد في العمر متقاربان.. وما دام العشق البريء لا يتنافى مع «الوقار» فلماذا يا شاعرنا أحمد جمعت لصاحبك بين الغار والنار..؟!
***
وما من شك ان ردة الفعل لدى الأستاذ الشريف كانت حبوراً مرفرفاً.. بقصيدة صديقه.. ولذلك صاغ هذا الشعور الحبوري في قصيدة لا تقل جودة عن قصيدة «أبي صالح».. بل زاد الشريف «ببهارات» مشهية.. سأورد شيئا منها في نهاية المقال.
بدأ الشاعر سليمان قصيدته التجاوبية برد التحية الى صاحبه بمثلها:
البلبل الصداح في دوحه إذا شدا أصغت اليه الطيور كم أمسيات كان صدَّاجها فازدحمت قاعاتها بالحضور |
وفرق كبير بين البيتين.. فالأول فيه ابداع وامتاع، أما الثاني فمن نسج «واس»..!
ولكنه يزكيه بالبيتين التاليين:
اصطاده الحب على غرة بأسهم من عين ظبي بَهِير تسمو به نفس كقطر الندى وحسن أخلاق كعرف الزهور يا صاحبي كسوتني حلة جميلة فضفاضة من حرير فصرت اختال بها معجبا وكدت مسروراً بها أن أطير أحسست مثل الزهو يجتاحني رحماك ربي من بلاء الغرور أحسست أني صرت ضخما فلا يفرق بيني وبين «البعير» رجْلاَيَ ان سرت الهويني فلا تقوى على حملي عند المسير رأسي كأني حامل فوقه «قِدر جَريش» من كبار القدور من ذاقه تراه من لذة يرقص أحيانا وأحيانا يدور |
ولعل قدر الجريش الذي ناء به ثقلا.. ذكره بتوجيه دعوة صريحة الى صاحبه أحمد ومعه المعازيم الأصدقاء قائلاً:
وهذه يا صاحبي دعوة فشرفوا بعد «العشاء الأخير» لعلني أحلم في إثرها إذا اضطجعت في الفراش الوثير أحلم أني صرت في جنة الفردوس نعم المنتهى والمصير وان أحبابي معي كلهم وأن أعدائي بنار السعير يقدمهم «شارون» في جيشه وقومه وكل أهل الشرور |
بارك الله في شاعرينا على ما أمتعانا به من شعر جميل
ناسوخ 2088471 |