تمخض عصر المادة ووثنية العلم عن طوائف تطلق للعقل العنان، ليقول ما شاء عما شاء، مستدبرة وحي السماء، ناظرة إلى العلم والعقل على انهما مناط كل شيء، واصفة كل من سواها بالماضوية والنصوصية والسكونية والتسطح، ولأن كل تطرف يتولد عنه تطرف مضاد، فقد وهبت طوائف أخرى، تحارب العقلانية لا على مفهومها الغالي وحسب، وإنما بتجاوز ملغ لأهلية العقل، مصادر لحقه، تفعل ذلك نكاية في الذين يلغون النص في ظل العقل، والرصد التاريخي للتطور المعرفي، يمر بمصطلحات، يدور مدلولها حول آلية القراءة للأشياء ومنهجها: كالظاهرية، وأهل الرأي، والمؤولة، والسلفية.. وفي العصر الحديث نقف على مفاهيم أخرى، تشير إلى طرائق التعامل مع الأشياء ك«الجدلية» و«الشك الديكارتي» و«التفكيك»، والذين تدق نظرتهم، ويتزن موقفهم، يعطون ما للعقل للعقل، وما للنص للنص، ومع كل ذلك يظل الخلاف في المفاهيم والمقتضيات على أشده، لا في ذات الاطلاق وحده، وإنما يمتد إلى الحق والأهلية والمجال والتصور، وعلى كل الأحوال فالعقل والنص صنوان لا قيمة لأحدهما في غياب الآخر، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر، ولا استقامة للحياة بدون نص محكم، وعقل حصيف متدبر، والعقل في النهاية طاقة ذهنية استرجاعية، في غالب أحواله، وليست طاقته انبثاقية إبداعية على اطلاقها، كما انها ليست كسبية محضة، إذ يضاف إلى الاسترجاع والكسبية الاختمار المعرفي، والاستنباط التفاعلي، وإذ لا يكون العقل هذا ولا ذاك، فهو تشكلٌ مزجي، من ذاتية التكون وكسبيته، وقدرة المتكون مرتبطة بأداة التكوين، ولما كان العقل مورد الحواس التقليدية، وتفاعل محصلاتها، ومجال توجيهها، كان مداة الإدراكي مرتبطاً بقدرة المكونات الخمس، والعلائق التي تنتج من معطياتها، وإذا كنا قادرين على تحديد إمكانات هذه الحواس، نكون في الوقت نفسه قادرين على تحديد قدرة العقل، أو تصورها على الأقل وتحديد القدرة، يحدد المهمة والمجال المتاح للتحرك، والعقول تختلف في مداها الإدراكي، من ذكاء وغباء، وكذلك الحواس تختلف قوة وضعفاً، وليس الحكم على الحواس مؤذناً بالحكم الطردي على العقل، بمعنى ان شخصاً ما يكون حاد البصر، قوي السمع، ولا يكون ذكياً في حين نرى الأصم والأعمى آية في الذكاء، وقد لا يكون كذلك، والمصطلح لا بد ان يكون حدياً، جامعاً مانعاً، والحواس توفي العقل ما كان، ولكن للعقل ذاتية مستقلة في الاستقبال، والتحويل، ورد الفعل المعرفي، والنص والعقل يقتسمان المهمة، ويتفاعل مؤداهما، لتأتي الحقيقة ناتج تلاقح العقول والنصوص، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا الفكر والدين، وإذا حكّم العقل في غير مجاله، وأنزل النص في غير منازله، جاءت النتائج كما أشار المتنبي إلى «السيف» و«الندى» ووضع أحدهما موضع الآخر، ونظرية «التناص» تكاد تفوت على العقل فرصة البراءة في الطرح والخلوص إلى درجة الصفر في الكتابة.
*، والعقلانيون الذين ينحون باللائمة على من سواهم، يحرفون الكلم عن مواضعه، فالسلفي المستنير المجتهد يبيح للعقل ما يستحق، ويأطره عند المقتضى النصي، والقرآن الكريم دائماً يربط بين العقل والحواس، ويخص السمع والبصر، لأنهما منافذ العقل الرئيسة {أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ} الفرقان آية (44) {فّعّمٍوا وّصّمٍَوا} *المائدة آية( 71) {صٍمَِ بٍكًمِ عٍمًيِ فّهٍمً لا يّرًجٌعٍونّ} *البقرة آية (18) {أّفّأّنتّ تٍسًمٌعٍ پصٍَمَّ أّوً تّهًدٌي پًعٍمًيّ} الزخرف آية( 40)، والإسلام كرّم الإنسان بالعقل، وليس من المعقول ان يعطل مصدر الكرامة. وأمانة التكليف مرتبطة بالعقل، والقلم مرفوع عن الصغير والنائم والمجنون، لغياب العقل، ثم ان ربط العقل بالحواس دليل على تشكله منها، وهي في النهاية محدودة الإدراك، معرضة للخداع، والعقل بهذه الإمكانيات المحدودة أحوج ما يكون إلى النص، وأي فكر لا يخفق بجناحي العقل والنص فكر كسيح، نقول هذا، ونحن نعرف طاقاته الهائلة، وإمكانياته المذهلة، ومع ذلك لا نغفل جانب النص، وبخاصة عندما يكون قطعي الدلالة والثبوت، ولا نغفل دور العقل حين يكون النص احتمالي الدلالة والثبوت، فالفقهاء مجتهدون، والمفسرون توصيليون، والمحدثون موثقون، والكلاميون متأملون مؤولون، والفلاسفة محللون، وكل طائفة من أولئك تؤاخي بين «النص والعقل» والمؤاخاة تركيبة خلطية تحدد الخطأ والصواب، فالمفسر يختلف عن الفيلسوف في استغلال طاقات العقل، والمحدث يختلف عن الفقيه المجتهد في التعامل مع المتن النصي، وأهل الرأي من الفقهاء يختلفون عن الظاهريين، والمدرسة العقلية في التفسير تختلف عن المدرسة اللغوية أو أهل الأثر، وهكذا يتبادل النص والعقل الصدارة.
وإطلاق العنان للعقل كما يريده الفلاسفة والعقلانيون من الوهم الجامح، الذي أضل كثيراً من أساطين الفلسفة والفكر، حتى بلغ الأمر بأكثرهم إلى الالحاد وحرية التفكير والتعبير حين لا تكون انضباطية، تفضي إلى الفوضوية والهلكة، ثم لا يكون إيمان، ولا مؤمن وقاف عند حد ما أنزل الله، والآخذون بعصم أولئك ينتهون إلى ما انتهوا إليه من الضلال، ذلك انهم اعطوا عقولهم ما لا قبل لها باحتماله، تقول بغير علم، وتحكم بغير سلطان، وتقلب الأمور. والعقل المستبد يفاجأ كل يوم بجديد، لم يكن له سابق عهد به، وهو تحت وابل هذه الظروف بحاجة إلى اعادة تشكيل واستشراف مستقبلي، ومنهجية دقيقة وابتعاد عن المواقف الانفعالية، التي تمكن للعواطف، وتهمش العقول، ولو ان العقلانيين قمعوا جماح عقولهم، وأطروها في مداها المتاح، لسلموا من تلك المزالق، ونجوا من هذه الموبقات، وخلصوا الإنسانية من متاهات الهلكة. فالمتزندقون يرددون: «اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا.. دين وآخر دين لا عقل له» فيما يقول النادمون: «نهاية إقدام العقول عقال».. ومن بوادر الصلف، وأمارات الغرور سخرية العقلانيين، واستهزاؤهم «بالسلفيين» الذين يقفون مع النص، ويؤمنون بالغيب، ويصرفون تفكيرهم عن الذات الإلهية إلى التفكير بآيات الله الواضحة المنبثة في الآفاق وفي الأنفس، ويعرفون انهم الأدرى بأمور دنياهم، وان الدين لا يمنع من التفكير، وان العقل مناط التكليف بل انهم يرون التفكير فريضة إسلامية، وقد ألف «العقاد» في ذلك كتاباً، ليقمع افتراء المفترين. ومعتزلة العصر المتهافتون على مناهج الغرب وآلياته بدون تأصيل معرفي إسلامي، يصفون الوقافين عند حدود ما أنزل الله بالنصوصيين المقلدين من باب السخرية وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب في عملية تلفيقية بينة العوار، ولما يبرحوا رصيف الانتظار لكل قادم على مطايا الاستشراق ليكون استغراباً ليس لهم فيه إلا التكرار، والذي تتاح له قراءة الفلسفة منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث يدرك جنايتها المنفلتة من الضابط الشرعي على الإنسان، مع انها مصدر معرفي مهم، لا غنى لأي مفكر عن منجزها وآلياتها ومناهجها، وبخاصة فيما هو متعلق بعالم الشهادة، ولكن القول بغير علم مظنة الضياع والمروق، ومن تجاوز بنظره مسارحه الممكنة أتى بالعجائب، لأن مقولاته من رجم الغيب، والسلفية الواعية المستنيرة تعطي العقل ما له، ولا تعتدي على حق النص، والفرق الجوهري بين الطائفتين: ان العقلانيين يديرون النص في فلك العقل، فيما يدير السلفيون العقل في فلك النص، وحين تدلهم الأمور، لا يجدون بداً من القول: (لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك انت علام الغيوب) ومصطلح «النص» يتفاوت بين «الفقهاء» و«الفلاسفة» و«الأدباء» فهو عند الفقهاء: «ما لا يحتمل إلا معنى واحداً» ولهذا قيل: «لا اجتهاد مع النص»، ووجدها المغرضون فرصة للوقيعة، تعويلاً على اختلاف المفاهيم، إذ ان مصطلح «التناص» و«النصوصية» و«النص» عند الأدباء والنقاد مختلف جداً، فرؤيتهم له تنبع من رؤيتهم للكون والإنسان ومبدأ العلة، ف«الكلاسيكي» و«الرومانتيكي» و«الرمزي» و«الطبيعي» و«الماركسي» و«البنيوي» و«ما بعده» و«المقارن» لكل واحد من أولئك مفهومه المباين أو المناقض لمصطلح «النص»، وتحديد المفهوم يحدد نظرية التلقي والتأويل، وتلك معضلة يصعب تقحمها، وقراءة النص عند المفكرين والأدباء تختلف عن قراءته عند الفقهاء والمتكلمين والمفسرين، ذلك ان هؤلاء يحيلون إلى أصولهم وقواعدهم وآلياتهم ومناهجهم، فيما لا يكون لأولئك آلية ولا منهج، أو تكون آلياتهم ومناهجهم مفضية إلى الضلال.. ومستويات القراءة الحديثة، ونظريات التأويل والتلقي أضافت على المشاهد أعباء جديدة، أحلت القارئ محل المؤلف، ومن ثم أميت المؤلف، وتمركز القارئ، وأصبح سيد الموقف.
|