Friday 19th July,200210886العددالجمعة 9 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

محكمة جرائم الحرب الدولية بين الواقع والآمال محكمة جرائم الحرب الدولية بين الواقع والآمال
زياد الصالح

كان مسعرو الحروب، وصناع الأزمات، ومافيا المآسي الإنسانية ومجرموها قبل انشاء محكمة جرائم الحرب يسيرون وفق مقولة «أثناء الحرب تكون القوانين صامتة»، فلم يكن هناك رادع لملايين البشر الذين قتلوا وشردوا وسلبت حقوقهم واهينت كرامتهم وانتهكت أعراضهم وزجوا في السجون ومورست بحقهم ما تعجز الكتب عن وصفه، في كل بقعة من بقع العالم مع تفاوت تلك الجرائم التي تزداد فتكا كلما اتجهنا جنوبا وشرقا، ونال العالم العربي ولا يزال، القسط الكبير منها بعد أن تحولت رقعته إلى سجن كبير تمارس فيه ألوان العذاب والإرهاب، تحت شتى المسميات والمبررات، وكان آخر صيحات هذه الجرائم وهذا الإرهاب في حق الشعوب ارهاب الدول الكبرى مثل أمريكا على دول تعتبر الأفقر في العالم بل تعيش في القرون الماضية مثل أفغانستان، وإسرائيل التي تسحق شعبا أعزل في أرضه أمام مرأى ومسمع من دعاة الحرية وحقوق الإنسان، وكل ذلك طبعاً يسير وفق مبررات يضعها ويصيغها المجرم نفسه.
لم تكن فكرة إنشاء محكمة دولية لمحاكمة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية بالأمر الجديد بل جاءت وفقا لفكرة قديمة أفرزتها أنهار الدماء التي سالت عبر العالم منذ الحرب العالمية إلى نهاية القرن الواحد والعشرين والتي راح ضحيتها ملايين من الأبرياء وتشرد من جرائها مئات الألوف وحصلت فيها الكثير من المظالم والغطرسة والإرهاب والتطهير العرقي دون أي رادع، كما جاءت مكملة للمحاكم الخاصة مثل محكمة «نورنبرورغ ورواندا ويوغسلافيا»، أما الإعلان الرسمي عن هذه المحكمج فجاء في مؤتمر «روما»، للجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 98م عندما أعلن عن معاهدة انشائها ووضع أسسها، ويراد لهذه المحكمة أن تكون سلطة قضائية فوق كل الدول بعد التوقيع عليها بأغلبية ليس أقل من «60» دولة، وتختلف هذه المحكمة عن محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة لكون هذه الأخيرة تحاكم دولا في نزاعاتها المختلفة، ولها تبعية كاملة للأمم المتحدة بينما لا تحاكم المحكمة الجديدة دولا ولكن أشخاصا ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية، كما أنها لا تتبع الأمم المتحدة حيث تتمتع بالاستقلالية الكاملة بالإضافة إلى أنها ستحل محل المحاكم الخاصة المذكورة آنفا سواء لمحاكمة مجرمي النازية أو مجرمي الحرب في يوغسلافيا أو رواندا.
وبعد هذه الفترة من الإعداد والتحضير، تمت المصادقة على المعاهدة في بداية هذا الشهر مع بروز مفاجأتين أولاهما أنها حظيت بتوقيع «69» دولة أي أكثر من المتوقع من أهمها دول الاتحاد الأوروبي وثانيهما رفض الولايات المتحدة التوقيع عليها، وهي التي كانت ادارتها السابقة في عهد الرئيس كلنتون من الداعمين بشكل واضح لإنشائها، وبالرغم من أن الإدارة الحالية كانت من المشجعين والمتشددين في ضرورة محاكمة «ميلوزوفيتش»، رئيس يوغسلافيا على ما ارتكتبه من جرائم، بل إن هذه الإدارة دعت بقوة وطيلة فترة حكمها إلى تشديد القوانين لمحاربة ما تسميه بالإرهاب، فما هو سبب رفضها ومبرراتها والذي جعلها تقف موقفا منعزلا عن بقية دول العالم؟
أسباب الرفض الأمريكي وأبعاده:
جاءت معارضة واشنطن للتوقيع على إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية لتكشف عن حقيقة سياستها الخارجية التي ظلت فترات طويلة محفوفة بالسرية والكتمان، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن وحدها المعارضة لإنشاء هذه المحكمة فلقد وقفت معها هذه المرة أنظمة كانت تتهمها بالإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، فبالإضافة إلى الولايات المتحدة رفض التوقيع كل من الهند، إسرائيل، اندونيسيا، ليبيا، الجزائر، الصين، قطر واليمن، بينما طالبت «سوريا»، مادة تفسر الإرهاب لاعتباره من جرائم الحرب، وكانت بريطانيا، كندا واستراليا وهي الدول الحليفة الأولى للولايات المتحدة من أشد المتحمسين لهذه المحكمة، بل وأعلنت دول مثل بريطانيا، فرنسا وألمانيا استعدادها لدعم المحكمة ماليا وتعيين مختصين لها ويستعد الاتحاد الأوروبي لدفع ثلاثة أرباع ميزانية المحكمة المقررة مبدئياً ب 30 مليون دولار.
إن هذا الشرخ الكبير في مواقف الحلفاء والذي يعتبر الأكبر من نوعه منذ «50» سنة، يبرز جليا الهوة التي أحدثتها السياسة الأمريكية الخارجية أحادية الجانب والتي ازدات بعد احداث سبتمبر، حيث فرضت الرؤية الاستبدادية والنهج العسكري الاضطهادي الذي تعتمده الإدارة الأمريكية في القضايا الدولية، مستفردة بالقرار الدولي، متخطية كل المؤسسات والأجهزة الدولية، لتتحول إلى دولة فوق القانون، ومن هنا تظهر أسباب ودواعي الانزعاج الأمريكي وتخوف البنتاغون، الذي يدخل في اطار تهديد مصالحها وافتضاح أهداف سياستها الخارجية الحقيقية حيث سيؤدي الأمر الذي قد يطال مسؤوليين أمريكيين قد يكونون متورطين في جرائم ضد الإنسانية في انحاء مختلفة من العالم، بالرغم من أن المبرر كان التخوف من محاكمة جنودها المنتشرين في أنحاء العالم، وكانت الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً كبيرة وهددت الكثير من دول العالم الثالث بوقف دعمها إذا وقعت على المعاهدة، لكن ذلك لم يفلح في تليين المواقف على انشاء محكمة جرائم الحرب بأغلبية كبيرة.
وفي خضم هذا الإنجاز الذي يعد الأهم منذ نشأة الأمم المتحدة فإن المعاهدة قد حملت في طياتها بعض السلبيات منها أنها لا تحاكم إلا عن الجرائم المرتكبة ابتداء من 1 يوليو 2002م، أي أن كثرة المجرمين الذين لا يزالون يحكمون أو أحيلوا إلى المعاش أو اختفوا عن الأنظار قد نجوا بشكل أو بآخر من دفع ثمن ما ارتكبوه في حق شعوبهم من جرائم شنعاء، والأمر السلبي الآخر أنها لم تحدد جريمة الاعتداء التي نصت على أنها من جرائم الحرب، وكذلك عدم الموافقة على طلب الهند باعتبار استعمال السلاح النووي من جرائم الحرب، وكانت مجموعة دول الانحياز التي تعتبر الهند أحد اقطابه، الأكثر معارضة لهذا الطرح، كما لم يشر إلى الأسلحة البيولوجية والكيميائية في المعاهدة.
لقد أنشئت محكمة جرائم الحرب الدولية أخيراً، ويقيم اليوم 400 من موظفيها في مقر مؤقت في «لاهاي»، في انتظار اكتمال بناء مقرها الدائم في ضواحي تلك المدينة مع نهاية «2007م»، والذي يضم سجناً ومكتبة ومستشفى، لكن هل ستحقق تلك المحكمة أمل الملايين من المضطهدين والمشردين والمنتهكة حقوقهم من شعوب العالم الذين يتطلعون إلى الحرية والخلاص، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة في حفل التوقيع: نأمل أن نرى قريبا اليوم الذي لا يفلت فيه حاكم ولا دولة ولا منظمة ولا جيش في أي مكان ينتهك فيه حقوق الإنسان، من العقاب، وهل ستستطيع تلك المحكمة وقف مجرمين عتاة يملكون كل شيء، المال والبلاد والعباد، وهل ستستطيع تحدي ومقارعة الكبار وعلى رأسها الولايات المتحدة، أم أنها ستضيف اسمها في هدوء إلى قائمة المنظمات الأخرى المسلوبة كالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن الدولي.

* نائب المدير الإقليمي بوحدة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، الاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved