تنسجها الدودة هي «خيوط الحرير»، فيزهو بها الإنسان.. بل تتجاذبه أمواج الزهو لتغرقه في طوفان الانتشاء، وعلى إيقاع مغناطيسية تماس الخيوط الحريرية مع جسده، يطرب الضئيل، فيمتطي للطرب خيلاً، وعلى بساط الوهم يحلِّق بخيلاء وقودها الأمل الكاذب، فترمي به إلى ما وراء مدارات الدراية، وهناك في أعلى «سافلين»، يصدق الإنسان نفسه، فيزداد - بتصديق الذات- عطشاً إلى تجاهل ذاته الجاهلة، حيث يعب من أحواض الجهل والتجاهل حتى تغيب عن الوعي بذاته كل غرائز الإحساس لديه..، يفعل ذلك كله وهو الذي يلبس رداء تزيّنه عبارة «من صنْع الدودة!»، بل يفعل ذلك كله وهو الذي يدوس بمشيه على الأرض «جوهرة»، برجليه..، فمن التراب تخلق.. وإلى التراب رغم أنفه سيعود، وأنى له غير هذا الخيار، وأين منه سوى ذاك الطريق، وماذا لديه إلا هذه الطريقة.. فمشي «الخطى» قدره.. «ومن كتبت عليه خطى مشاها»، .. فكل خيوط الدنيا .. كل أسلاكها،.. كل حبالها واهية مهما بلغت من الصلادة والصلابة..
مهما اعتقد الإنسان أنه عليها قد استحكم الوثاق وأحكم السيطرة..، فكل ما خالطه من ذرات التراب ذرة مصيره الزوال على مُستنسِخ «ما خُلق من التراب»، ترابا.. الزمان..
* * *
يا رحيل .. عليه مهما طال الغياب..، ومهما بعدك تعلم منه الطير كيف يشدو حزنا على أحزان البشر..، ومهما تعلمت منه أغصان الأشجار كيف تميل من الحزن، حيث تهب عليها رياح مواسم الخريف وتميل..، ومهما استنطق الأمد الانتظار في كيانه ليلقي على مسامعه كل معلقات اليأس من العثور عليك..، ومهما رفرفت أجنحة النوارس المهاجرة فبللتها من الحزن زخات مدامع السحابة الدكناء..
ومهما دمعت محاجر الوداع خوفاً من عدم الإياب..، ومهما جفت مآقي الغياب شوقاً إلى الإياب..
ومهما استحال في عيون الغياب الإياب..، فلسوف يبحث عنك في أظلة الجمادات، وفي مهج الكائنات وفي سحنات البشر، وفي حطام ما غرق في قيعان المحيطات، وفي ذرات أكوان المدارات، وفي بقايا شظايا كواكب وأقمار الفضاءات.. وفي الصناديق السوداء، وفي قوائم إعلانات المفقودات.. وفي تجاويف صمت مقابر الأموات.. وفي أمواج إيلام ذكريات الذات للذات..
|