قبل أن تواصلي صمتكِ، وتلقي المفاتيح إلى البحر...
تذكَّري أنَّكِ سوف تجلسين إلى نفسكِ ذات يوم، وستمر بكِ كافَّة الأشياء الصغيرة التي كبُرت... وكبُرت ثمَّ انتهت شظايا...
أنتِ وحدكِ من صنع هذا الحجم لها... وأنتِ وحدكِ من فجَّرها... وأنتِ وحدكِ من هرب عن شظاياها...، ولم تحاولي البتَّة أن تكوني أكثر صدقاً مع نفسكِ فتقتحمي الأسباب، وتدخلي المنافذ كلَّها كي تري ما فعلتِ؟ وكي تدركي حجم الذي فعلتِ؟
أمَّا أنا...
فلقد جئتُكِ من كلِّ المنافذ والنوافذ...
ولا أنسى ما قلتِه لي يوماً عن ملاحقة المجيء... تلك التي صدَدْتِ عنها منافذكِ ونوافذكِ، واختصرتِ الاستقبال...، بمواربة الطريق، فتارةً كنتِ تقبلين، وتارات أنتِ تدبرين، وكلَّ المرات كنتِ الصَّامتة أمام صولة المثول، وتقاطر الكلام، وهجوم الشوق، وفرحة الطفولة في مساءاتٍ وصباحاتٍ كانت تتمازج فيهما الأزمنة، وتتفاوت فيهما الأمكنة...، فأنتِ تنامين متى استيقظ الحديث، وأنتِ تستيقظين متى جرَّح السهر كفوف الأقدام، والطريق إليك بعيد... كما هي حسرة الموَّال في بارحةٍ بحَّ فيها الصوت وهو بعيد بعيد... والمراكب التي شهدت فيه ، والعصافير الشاطئية التي وقَّعت معه على قسيمة الصَّبر، والبكاء، وريشتا حزين الدروب في ظمأ الشتاء والصيف كلُّ أولئك... يشهدون عليكِ، لا لكِ...، ويدينونكِ ولا عذر لكِ... وذلك الطريق الطويل الذي تفاوتنا فيه، فذهبتِ ودسَسْتِ نفسك في آفاقه ولم تديري ظهركِ... إلاَّ عندما تجدين الوقت مبسوطاً لكِ كفُّه ولا شيء يملؤه... فتعاودين المثول...؟
كم في هذا من السؤال، وكيف فيه من حسرة المواجهة؟...
اللَّحظة... مثل كلِّ، اللَّحظات أجلس إليكِ... أتحدث معكِ.. إذ لم يكن متى، ولا أين، لم تكوني فيهما معي...، وأنتِ تعرفين عنِّي ذلك...، إذ لا أحد غيركِ له الحديث، ومعه، في كلِّ اللَّمحات، واللَّحظات، والخطرات...
ولكن...
أتدرين أنَّ هناك من يشاطركِ كلَّ ذلك؟ إنَّه الطير الذي جاءكِ، ولم يكن به «خيرٌ» كثيرٌ... وجاءني وكان به حزن الشتاء والصيف، وبه شيءٌ من ظمأ التَّوْق...، أجل... فهو كلَّما شعر بشوقه إلى مشاطرة البكاء، جاءني...
ذلك لأنَّّه علم أنَّكِ ذهبتِ دون أن تأخذي معكِ العُذْر، ولم تتَّضح لكِ نقاط الحروف، ودون أن تلمي عن لوحة النَّغم حروف البَدْء، ولا شارات الانتهاء...، ذهبتِ وأنتِ تحسبين أنَّكِ مملوءةٌ بالأسباب، ولكنَّكِ وحدكِ من أضْعتِ كافَّة مفاتيح الأبواب...
أفلا يخطر لكِ أن تمري بأبعاد عذوق النَّخيل، كي تحدّثكِ النخلةُ، كم مسحت عن دروبي أغبرة الضّياع، في متاهات البحث عن ظلَّكِ؟ وكم قد حنَّتْ على ضعف الدموع، في بحَّة الشوق، في مساءات البحث عنكِ؟، وكم أعادت إليَّ ، وهج الفرحة، بشيء من ذكرى عبوركِ، ومروركِ بدروبها...؟
ألم يخطر لكِ أن ترتاحي هنيهةً إلى سلّة السؤال، وتُدخلي ذاتكِ في دائرته حين ينطبق نصف علامة الاستفهام في مواجهة مع نصفها الآخر، وتسمعي وأنتِ بينهما من داخل هذه البوتقة، وأنتِ محاطةٌ بطوق السؤالين ما يدينكِ بسرِّ إدباركِ، حين تنفسح لكِ الطُّرق، وتتّجهين هناك إلى أبعادها، وبسرِّ إقبالكِ حين تتقلَّص المسافاتُ بين قدميكِ هنا؟!...
وبينهما إدبارك مراقباً لكِ مسافات من الزمان... في مساحات من المكان... تهوج بي فيهما الأسئلة، وتنمو الأحزان، وتموج متاهات الفقد...، وتتّسع أعماق الحسرة؟...
أنتِ الآن تصمتين...
لأنَّكِ مُواجَهةٌ بالصمت...
لماذا لا تمنحين الآخرَ عذر الصمت، وأنتِ من نَسَجْتِ عباءته، غُرزةً، غُرزةً...، وكلَّلْتِ السِّتْر بها منذ أنْ وضعتِ نفسكِ في سلَّةِ هذا الصمت...؟
ولماذا الآن، وأنتِ تحاولين الخروج منها، تعودين إليها، ألانَّكِ وجدت الآخر أمامكِ صامتا؟؟!!....
ألا تعودين إلى مغزلكِ، وتشاهدين فراغه من الخيوط...، وتعلمين أنَّكِ قد بَذَلْتها في صناعة عباءة الصَّمت التي تكلَّل بها الآخر؟!...
هذه أنتِ...
أمَّا الآخر.. فإنَّه أكون وحدي...، لا أملكُ في ستْر الصَّمت سواكِ...، وريشتا طائركِ...، وكلَّ ما فيه من حزن الشتاء...، وحزن الظمأ...
ولو كنتُ مكانكِ... لطفقتُ أمزِّق عباءة الصَّمت...
لألغي الأسباب...
وأُبحر في الحصول على المفاتيح التي أضعتُها...
كي ألج إليكِ كافَّة الأبواب».
جزء من قصة طويلة
|