اذا خرجنا من النقد الحداثي والنقد الاكاديمي والخاص، فاننا لا نعدم نقدا آخر في المجال نفسه، وهذا النقد يتحمل مسؤوليته كاملة عن الحكم المطلق في الردود، او وجود الرأي الآخر في الوضع النقدي، ويحصل على حريته من نفسه، بعيدا عن القيود الأكاديمية والنظرية النقدية، فالناقد ينطلق من حرية النقد ذاتها، الا ما يضطره الى الوقوف عند نظرية او جزء منها للتدليل على قول يريد اثباته، او نفي مقولة وردت في النص لم تثبت صلاحيتها من وجهة نظره ووجهة نظر النقد، كمؤسس ثقافي يعتمد عليه، ويقف الدكتور منصور الحازمي على رأس هذه الفئة من النقاد في اغلب مؤلفاته فيعطي رأيه بكل صراحة وتجرد، وهذا جوهر النقد، وتقوم آراؤه على التطبيق والاستشهاد بالنص المنقود. يقول في كتابه «مواقف نقدية»:
«تلصق على اللحوم المجمدة والالبان والمواد الغذائية الاخرى السريعة العطب بطاقات تحدد عمرها، تاريخ الانتاج وتاريخ الانتهاء ولابد من ان تستهلك المادة الغذائية خلال هذه الفترة التي قد لا تتجاوز الايام والشهور وقد تطول الى سنتين او ثلاث فإن بقيت المادة الغذائية في الاسواق بعد انتهاء فترة صلاحيتها، اتلفت وعوقب البائع، لان في ذلك خطورة على صحة المستهلك، فقد يصاب بالتسمم او الموت، لا قدر الله والكتاب لا يقل اهمية عن المادة الغذائية بل هو اكثر خطورة، ومع ذلك ليس هناك جهة مسؤولة تحدد صلاحيته للاستعمال نعم، هناك اجهزة لمراقبة المطبوعات في اكثر بلدان العالم، ولكن هذه الاجهزة لا تقرر عادة قيمة الكتاب من الناحية العلمية او الادبية، بل تقرر ما يسمح بتداوله وما لا يسمح في حدود الانظمة واللوائح والقوانين، غير ان هذا المقياس لا يحدد قيمة الكتاب الحقيقية، لانه مقياس نسبي يختلف من بلد الى آخر، ويظل الكتاب المفسوح يعاني امراضا كثيرة، لا يلحظها الرقيب، بل ليس في مقدوره، وليس من مهمته ان يلاحظها، ولو للكتاب هيئة علمية تكمل عمل الرقيب، لما فوجئنا بهذه الكثرة من الكتب التي تتزاحم في الاسواق، وبعضها لا يضيف جديدا، وبعضها قليل الاهمية، وبعضها استولده المؤلف من كتبه السابقة، وبعضها لا تعرف له هوية، وبعضها فقير النفس يشدو ويستجدي وبعضها ينتفخ بمواد لا قيمة لها»(21).
هذا مقال من مقالات الدكتور الحازمي يسخر فيه من كثرة الكتب وقلة النوعية الفكرية والادبية والعلمية في الكثير منها، والدكتور الحازمي في نقده يستولد الفكاهة والنادرة والطرفة على ما ينقد، وهذا اسلوب عرف به، لكنه الجاد اذا كتب، والمصيب اذا نقد.
ويمثل هذا الكتاب لبنة مهمة في نشأة النقد الحديث في المملكة العربية السعودية، ففي نقده لكتابات ابي الفرج التي البسها ثوب الرواية ظلما وعدوانا على هذا الفن الجميل.
وثمة ما يبعد رواية ابي الفرج عن الرواية التاريخية وعن فن الرواية بعامة، وهو اعتمادها على سرد الوقائع الحقيقية وكثرة الاشارات الى الشخصيات التاريخية المعروفة والمشهورة مما يجعلها اقرب الى التقرير الصحفي او التعليق السياسي منها الى الفن الابداعي الذي يستوحي الواقع، ولكن لا ينقله كما هو(22) ونشارك الدكتور الحازمي الرأي في هذه الاعمال الغثاء التي زج بها المؤلف في ميدان الرواية، وليس هذا هو العمل الوحيد لهذا المؤلف الذي جنى به على فن الرواية كمتعة وفن وثقافة، بل كتب اعمالا كثيرة لا تمت الى الفن الروائي بصلة على الاطلاق ونجد ان الفن الراقي في كل زمان ومكان - كالمؤمن مبتلى دائما، فقد لاحظ القدماء تطفل الادعياء على مائدة الادب الكريمة، وكانت ملاحظة الاستاذ عبد القدوس الانصاري ملاحظة في مكانها، فقد كتب مقالة بعنوان «محنة الادب في بلاد العرب» ذكر فيها ادعياء الادب الذين ترفعهم الصحافة نجوما براقة، ثم لا يلبثون ان ينكشفوا فيزول بريقهم وتعرف حقيقتهم، واذا كان الانصاري قد لاحظ ذلك في الزمن الذي يعد فيه الاديب اديبا، فماذا نقول عن الزمن الذي هيئت فيه الفرص لكل من هب ودب ضيفا على مائدة الادب، وصار التشجيع المادي يدفع بالكثير الى تأليف كتاب هجين من عدد من الكتب قبله؟؟ لكني سأعود الى مقولة لي سابقة حول الابداع، فالابداع كفيل بنفسه وهذا الكاتب ومثله اضروا بالرواية عند من لا يعرفها، وهذا هو التطفل الذي لابد منه(23).
ويضيف عبد الله الشباط الى هذا النقد دراسات نقدية تقليدية في مجملها، لكنها لا تخلو من الرأي الشخصي للكاتب نفسه ، فالشباط كاتب توثيقي خدم الادب في المنطقة الشرقية من خبراته الصحفية والثقافية القديمة، تغلب على كتاباته الترجمة غير التقليدية، وليست الترجمة بمصطلحها الفني، وهو يستقي ثقافته من مخزونه التراكمي وخبرته الذاتية، فمعظم الذين كتب عنهم من الذين يعرفهم او يعرف أسرهم، فاهتم بدراسة الخليج العربي وركز في دراساته على منطقة الاحساء التي ينتمي اليها بالبحث عن شعرها ونثرها، لكنه قلما يعطي الرأي القاطع في الشاعر او الكاتب، فيورد الترجمة الموجزة وبعض ادبه «شعرا او نثرا» وقد افرزت هذه الاجتهادات ادبا مرجعيا للدارسين، وعرف الكثير هذا الجزء من البلاد، من خلال دراساته وكتاباته الكثيرة، مع ان الكثير منها يتكرر في اكثر من مؤلف(24) لكن الشباط قد اسهم بنصيب في النقد، على ما فيه من التقليدية بل إن دراساته مفتاح للدارسين.
ويجد الدارس للنقد الحديث بالفرق في الاتجاهات، وهذا - في حد ذاته - ظاهرة صحية، فبالقدر الذي يتجه البعض فيه الى اعماق الحداثة المجهولة، يلتجىء البعض بالتراث في نقده، وكأنه يحارب بالسلاح التقليدي، كحجة على دعاوى الحداثيين في هدم التراث والتسلق على الحائط الغربي الواعد بكل جديد متقدم. يصدر محمد المفرجي كتابه «المرحلة» الذي كتب على غلافه: «هذا الكتاب يمثل رصدا حيا لواقع الحياة الأدبية في عالمنا العربي.. ويجسد مرحلة تداعت الى ساحتنا بعض التيارات وبعض التوجهات «الحداثة، الألسنية، البنيوية» حيث وجدت بعض المجدفين وبعض المتسلقين وبعض المتعلقين، شهدت منافخات وحوارات ومداخلات وانقسامات بين مؤيد ومعارض ومتردد، ارتفعت اصوات وانخفضت أصوات كانت المرحلة بين مد وجزر دفعتنا إلى البحث والتنقيب والغوص في أعماق الكتب لاستجلاء بعض الصور وبعض الملامح والوقوف على كنوزنا التراثية والانفتاح على الآداب الاخرى دون ان ننغلق او نذوب او ننخدع بالايديولوجيات فنفقد هويتنا ويضيف: المرحلة كانت مرحلة صحوة لابناء وبنات الجيل كانت المرحلة بمثابة تحصين ضد تلك التوجهات والانهيارات...!» (25) يعتبر كتاب المفرجي حصيلة دراسات ومقالات تسفر عن وجهها في مواجهة التيارات الحداثية وليست الحديثة، فمن مقدمته على الغلاف يوجز ماهو بصدده، انه ليس ضد الحديث، لكنه ضد الحداثة ويكلل ذلك بالمقالات التي يصرح فيها بكل ما عنده، دون التعرض لاسماء، لكن الامر واضح لكل متتبع لمسيرة النقد في هذه البلاد.
ويتضح من خطاب محمد المفرجي شدة حملته على الحداثة والحداثيين، ومطالبته بالعمل على التراث العربي، ويقينه ان أتباع الحداثة لا يعون معنى الحداثة الا القليل منهم يقول: «اعترف بادىء ذي بدء ان الاستاذ السريحي من ألد الخصوم في دفاعه وتبنيه معركة الحداثة كأحد المدافعين والمنافحين عنها في اول عهدها لدينا!.
لقد اختلفت معه اختلافا بائنا ابان تلك المعركة بين الاصالة والحداثة، وقلت عنه وقال عني وهو اختلاف فكري لم يفسد للود قضية ويضيف المفرجي، والآن وقد حصحص الحق، استطاع السريحي ان يفجر موقفا جديدا وان يقلب الطاولة ويرفع شارة الاستسلام وراية الاعتراف ويقول بكل شجاعة وجرأة «انتهت الحركة الحداثية» وانغلقت على نفسها» والمقال طويل ينم عن انتصار كان الكاتب يكنه في نفسه زمنا طويلا ضد الحداثيين، واولهم الاستاذ سعيد السريحي، الذي عدل - حسب هذا القول - عن رأيه في النمط الحداثي الذي اجتاح البلاد فترة من الزمن تساقط انصاره الواحد تلو الآخر، ويضيف المفرجي، وهكذا وبهذه الاعترافات استطاع السريحي الخروج من هذا النفق الضيق «الحداثة» فأحدث تصدعا في الجدار المنهار وخللا في البناء مما جعله يتداعى ويسقط ونحن على يقين وعلى ثقة من سقوطه وانهياره منذ مدة وانها ماتت في مهدها.. لكننا نرحب بالاعترافات واحدا بعد آخر لنكشف المخدوعين والراكضين خلف السراب ممن خدعهم البريق فمشوا خلفه زمنا مبهورين بالتيارات والايديولوجيات والتوجهات وحين تكون الاعترافات من داخلهم فان التفجير تكون له شظايا ذات وقع مؤثر..(26) وفي نقد المفرجي هجوم على الحداثة وانصارها في الوطن العربي، وهو في الوقت نفسه لا ينكر الحديث ولكنه يفرق بين الحديث والحداثة، ويستشهد بالكثير من المقاطع الحداثية التي تلقى في الأمسيات الشعرية والمواسم الثقافية، ففي حديث له عن الشعر الحداثي في المواسم الثقافية، يستشهد بقصيدة للشاعر التونسي المنصف المزغني، يقول «وقبل حوالي ثمان وقد كانت الامسيات حافلة بالشعر والشعراء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ونقلت ضمن التغطية بعض العبث الحداثي والهذر الذي يلقيه البعض على انه شعر ومن ذلك «قصيدة الخروف» التي القاها الشاعر التونسي المنصف المزغني والتي منها:
خروف دخل البرلمان فكان في حالة اجتماع فقال: امباع امباع فجاء الصدى امباع امباع |
وقد دارت الأيام وحضر الشاعر التونسي نفسه في الجنادرية، وسمع المفرجي يتهكم على هذه القصيدة مستشهدا بها، ورادا على من يقول من الحداثيين ان المفرجي نسجها من عنده ليفسد على الحداثيين مشروعهم، لكن الشاعر التونسي المنصف المزغني كان حاضرا، فقام وقال: نعم، انا قائلها وهي من الغثاء، فرد الجميع: شهد شاهد من اهله(27) وكما يرفض المفرجي في نقده الحداثة الغربية، يرفض بجانبها الشعر العامي بما فيه من الحداثة والتجهيل والتسطيح، وقد نوافقه في تعرضه لنقد المجلات الشعبية التي تنشر الغث من الشعر الشعبي وتحط من قيمة اللغة والتراث الادبي الاصيل، مثل مجلة فواصل التي تعرض لها الناقد وكشف ما تبديه من غث ليس له من مردود ثقافي على المستويين، الشعبي والفصيح.
وقد تعرض المفرجي في كتابه هذا للكثير من المقولات النقدية، والعبث الذي يمارسه من لا يدري ومن يدري ويعلم انه يدري.
|