إعداد:علي سعد القحطاني
الخطاب الثقافي ثنائي يقوم على (الأنا) و(الآخر) من أجل تجسيد لغة امثل للحوار ولقد كان تراثنا العربي زاخرا بتلك الاشراقات الحية التي تدل على وعيه واحترامه بقيمة الآخر الا انه مما يؤسف حقا هو غياب الآخر والعمل على نسفه والغائه بالكلية في آلية الحوار.. ويبقى المثقف المستبد برأيه في المحصلة النهائية يحاور نفسه وقد قمنا باجراء حوار مع عدد من الاساتذة الجامعيين للاستئناس بآرائهم في هذه المسألة.
وقد تحدث الدكتور سليمان بن جازع الشمري عن اشكالية الحوار في الثقافة العربية وقال: مشكلتنا اننا ما زلنا نكرر ونردد مقولة عمر بن الخطاب «أخطأ عمر وأصابت امرأة» هذه المقولة رسخت في أذهاننا وسلمنا بها على مدار العقود الماضية، دون ان نصنع أمثلة على غرار ما فعله عمر، وبدأت تظهر في الآونة الأخيرة ثقافة الاختلاف، وبدأنا نسمع بمصطلح الرأي والرأي الآخر الذي تردده بعض القنوات الفضائية الا انه ما زال توجد هناك فجوة بين ما نسمع في القنوات الفضائية وممارستنا بالنسبة للتعامل بين افراد المجتمع.. ويمكن قطعنا شوطاً بسيطاً للرأي والرأي الآخر في مساحات الرأي في تلك القنوات الا اننا لم نطبق ذلك على مستوى التعامل بين افراد المجتمع، ونجد ان في الثقافة هيمنة صورة الشاعر الفحل او الناقد الفحل.. وهذه مشكلة هيمنة الشخصيات التي تقدس مبدأ الفحولة في الساحة الثقافية، أي انهم بذلك ابتعدوا عن هموم المثقف ووضعوا انفسهم في بروج عاجية.. ويوجد للأسف قمع ثقافي للمثقف نفسه من مجتمعه وأسرته ايضا.
وأشار الدكتور عبد الله الفيفي في مداخلته ان اي ثقافة قومية عندما تصاب بالتحيز للذات الى درجة تغيب معها انسانية الآخر، والاسلام قد ألغى العقلية التعصبية من خلال مبادئه وهو الذي جاء بمبدأ قبول الاختلاف بين الناس وقد كان مبدأ الاختلاف رحمة هو طابع الفقه الاسلامي وقال:
وهل يسمى الخطاب حوارا أصلا اذا كان الآخر عنه مغيّبا؟ هذا لتقويم السؤال، أولا.. ثم ان هناك تصورا نمطيا مرسخا بأن الثقافة العربية والاسلامية تغيب الرأي الآخر في خطاباتها بل تغيب الانسان الآخر نفسه، بما يعنيه من ثقافة مختلفة ومواقف اخرى. ولاشك ان الثقافة العربية والاسلامية، كأي ثقافة، تعاني أدواءها ونقاط ضعفها، وليست بمنزهة عن النقد. غير ان الاحداث - ومنها ما تداعى به الحادي عشر من سبتمبر 2001م تدل على ان الآخر - الذي طالما ردد بعض مثقفينا التباكي على تغييبه في خطاباتنا - قد اثبت انه سيد المتعصبين طرا ضد الآخر، ورائد المغيبين له ولرأيه، حتى لو كان ذاك «الآخر» ينتمي الى الجنس ذاته والبلد نفسه، وذاك يوم تجسد له الآخر «المخالف» - ايا كان قربا او بعدا - في صورة «الموت» لقد شهدت الولايات المتحدة - على سبيل المثال - حجرا على الرأي المخالف لرأي الادارة وتوجهاتها تحت شعار ما اسمته ب«الحملة ضد الارهاب» ذلك الشعار الذي يرى البعض انه لم يبرأ من مواراة شعار آخر ينطوي معنى معناه على «الحملة ضد الاسلام» وفي هذا السياق جاء خطاب الرئيس جورج دبليو بوش المشهور : «من ليس معنا فهو ضدنا» وعليه فلتذهب دعاوى الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي والرأي الآخر الى الجحيم، فقد بات القوم «يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو». ولسان حال العم جورج ابن العم سام وحال ادارته يومئذ: «لا صوت يعلو فوق صوت الحملة ضد الارهاب»، على طريقة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، تلك العبارة الشعارية في تاريخ العرب الحديث، التي تعني في ما تعنيه: «لا صوت للمعركة سيخبو اصلا، لكيلا يعلو صوت آخر أكثر ازعاجا».
هذا المثال التاريخي يجعلك تسأل: اين الفرق اذن، ما دام اولئك الذين تتخذهم ابواق الثقافة التبعية نماذج عليا، قد انكفأوا بدورهم على انفسهم عند اول مواجهة، فاستحالوا الى نظم قمعية، حتى مع مواطنيهم وابناء جلدتهم، فراحوا يكممون الأفواه، ويسيّسون الاعلام، ويحاصرون المسيرات؟ ليبرهنوا بهذا على ان الطبع يغلب التطبّع، والتاريخ ما يفتأ يعيد سننه مهما اختلفت الأزمنة والأماكن، حسب ما انتهت اليه النظرية الخلدونية، اذن لا فرق، فالانسان هو الانسان، متى لم يستمد اصوله المنهجية من رؤية انسانية شمولية، تخبط بين افراطه او تفريطه وسيّرته التيارات وفق مهابّها ولم يسيّرها هو وفق مبادئه الحضارية المثلى.
* . وقد كان مبدأ الاختلاف / الرحمة» في الفقة الاسلامي نموذجا في قبول الاختلاف بين الناس والتعايش الحواري بين المذاهب»، والاجتهادات، ما كان له منها اجر وما كان له اجران، ذلك لأن الجميع قد تواطأوا على قاعدة ذهبية، هي ان لا احد من البشر، كائنا من يكون، يحق له ان يدعي اكتناز الحق او الحقيقة المطلقة تحت اهابة، الا رسول الله، الناطق عن الله، الحق المطلق.
وهكذا يتبدّى ان السؤال عن غياب الآخر فيما يفترض انه حوار هو سؤال عن قضية القضايا في التاريخ الانساني، فلا اجابة عنه ممكنة بلا استشراف لتلك الجذور التي يمتح من خلالها. فلئن كان السؤال عن اسباب ذلك الغياب في ثقافتنا، فان الاجابة تكمن في غياب الرؤية الاسلامية الحضارية السوية، الضامنة الوحيدة لحرية الاختلاف وقبول الآخر، ايا ما كان ذلك الآخر.
أما الدكتور حسن البنا عز الدين فيتساءل عن آلية الحوار في ثقافتنا المعاصرة ويرى انها مغيبة فيقول:
غياب الآخر في الحوار وهل ثمة حوار دون آخر؟! فالسؤال اذن يجب ان يكون: هل هناك حوار بمعنى الكلمة في ثقافتنا المعاصرة، وفي اوجه الحياة المختلفة؟ وهل هناك شعور حقيقي بأهمية الحوار وضرورته في هذه الثقافة؟ وهل هناك الآن استعداد حقيقي لدى اولئك الذين لم يعتادوا الحوار لانهم في موقف اقوى من الطرف الآخر.
هل يؤمن المدير، اي مدير، بأن ادارة حوار حقيقي مع مرؤوسيه كفيل بأن يجعل من مؤسسته اكثر نجاحا وتقدما؟ وهل يؤمن الآباء بأهمية التشاور والحوار مع ابنائهم الذين كبروا وتعلموا بخصوص أي قرار معهم في الاسرة؟ وهل قام اولئك الآباء بتربية ابنائهم على اهمية هذا المبدأ في الحياة؟ وهل يسمع المدرسون في التعليم الاساسي والاساتذة في التعليم العالي لطلابهم، ويشجعونهم على الحوار داخل الفصل وخارجه؟ وهل يقوم المدرسون والاساتذة انفسهم بالحوار معا بصورة فعالة لصالح طلابهم ولصالح تكوين اهداف عليا يسعى الجميع الى تحقيقها؟
ان الحوار بين الأنا والآخر يعني ان هناك مصالح مشتركة للطرفين، وعندما يتخلى طرف ما عن الايمان بمبدأ الحوار لحل اي اشكال مع الطرف الآخر فهذا يعني أحد امرين: اما ان يكون هذا الطرف المتخلي شعر بأنه اقوى من الطرف الآخر، ولهذا لا داعي للحوار الا على نحو مزيف وخادع وشكلي، وإما ان يكون الطرف الآخر قد يئس امام صلف واستبداد الطرف الاقوى، ولا يكون الحل هنا سوى اليأس والاستسلام او المقاومة والرفض بكل الطرق الممكنة. وهذا الموقف اذن يؤدي في النهاية الى موقفين: الطرف الأقوى يمارس «ارهابا» نفسيا وماديا على الطرف الاضعف، والذي قد يتحول بالتالي الى الدفاع عن نفسه بما يدعوه الطرف الاقوى ارهابا! أليست هذه هي الصورة التي وصلنا اليها اخيرا في علاقتنا بالآخر: سواء أكان حاكما، مديرا، ابا، استاذا، او دولة اخرى تحتل ارضك، وترفض الحوار معك، وتسميك مع ذلك، «ارهابيا» لانك تطالب بحقك في ارضك وفي انسانيتك.. دعونا نؤمن اولا بأن كل البشر سواء وان لا سبيل لاي طرف في تحقيق انسانيته الا بالحوار مع انسان آخر، ايا كان موضعه وقوته ومركزه، وتحقيق العدالة الانسانية التي ينبغي اعادة تعريفها من جديد على أساس الايمان بأن وجودي ليس له قيمة الا بوجود الآخر، ومثلما لا وجود لي الا بالحوار مع نفسي، فلا وجود لنفسي الا بحوارها مع الآخر. وقديما قال ارسطو «صديقك آخر هو انت الا انه غيرك بالشخص» وقديما قالوا كذلك : «ان الانسان مدني بالطبع، فاذا تساوى الناس في الاستغناء هلكت المدنية، وبطل الاجتماع» ان الانسان لحظة في حوار بالغ الامد. فاذا لم يقل كلمته في اللحظة المناسبة يكون قد ابطل انسانيته، وابطل انسانية الآخرين بالمثل، الحوار اذن اشبه باحياء الناس جميعا اذا احييت واحدا، وإماتة الناس جميعا اذا أمت واحدا.
|