Thursday 18th July,200210885العددالخميس 8 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

العقوق الحركي للأم الرؤوم العقوق الحركي للأم الرؤوم
عبدالله بن ثاني

قال طه حسين (من لغو الصيف): «المرء بخير ماعرف لنفسه قدرها، ولم يكلفها الحياة في النجوم وقد خلقت لتحيا في الأرض».
هذه الواقعية التي لم يدركها ذلك الفتى عندما هزّ سيفه أمام المهلب بن أبي صفرة في حروب الخوارج عندما قال: ما رأيك بهذا يا مهلب؟ فأجابه: صقيل لكنه قصير، فقال الفتى: أوصله بخطوة، فضحك المهلب في وقت غير مناسب، فقال: يا فتى، لو أنك مشيت من جزيرة العرب إلى الصين على أنياب الأفاعي لكان أسهل من تلك الخطوة في مكانها... أتدرون لماذا؟
لأن المهلب وزن الأمور بعقله والفتى وزنها بعاطفته التي قد تكلفه حياته قبل ان يوصل سيفه القصير بخطوته؛ لأن السيف في اليد الأخرى أطول من سيفه.
آه، ما أحوج المسلمين هذا اليوم إلى عقل المهلب الذي جرب الأمور حتى استيقن، وأخلص حتى سدد الله سهمه وجاهد حتى قامت دولة الإسلام.
ينتابني شعور مخيف أيها السادة وأنا أشاهد المؤامرات والمؤتمرات التي تناقش مصير هذه الأمة في مرحلة تعقب ستة قرون من التخلف والإبادة حتى ازدهر في ظلها الفكر المخالف والبدع والقراءة الخاطئة والتوظيف السخيف للنصوص والأدلة ومشروعية الخروج على الولاة واتهام العلماء الكبار بالمداهنة.. في وقت تغيرت فيه الأبعاد واتسع الخرق على الراقع، وأصبح العالم الإسلامي مشتتاً تحكمه مجموعة من الأنظمة المختلفة في العقيدة والمشرب والاتجاه والقراءة، فالشرق شيعي والغرب صوفي والشمال علماني والجنوب باطني، فصرخت بصوت مرتفع «لقد نجحوا ورب الكعبة» عندما صاغوا عالمنا على الطريقة التي يريدون وحينها يصبح النهوض من هذا الواقع نمطاً صعباً ونمطاً مخيفاً.
إن الحياة كأي مشروع حضاري تتطلب المسار الصحيح، وإلا تحولت للاتجاه المقابل مشروعاً فاشلاً لايتطلب أكثر من قبر لأنه لم يعتمد على المعرفة والشفافية في اكتشاف الذات والتخلص من الفرق وإدراك فن العيش مع الذات والآخر، ولا أبالغ إذا قلت إننا بفعل خيالنا وعدم واقعيتنا نعيش في ليلة طويلة نردد فيها بصوت عالٍ «لا الحركيون انتصروا ولا نحن هزمنا»، فقط نجحنا في الترويج الإعلامي الفاشل لبضاعتنا الفاسدة أمام أنفسنا، في حين ان العالم مشغول بفرض السيطرة على الآخرين الذين يعانون من خمول متعدد المستويات تحول إلى رهينة في سجن اللحظة التي جرى عزلها عن التاريخ وإسقاطاته منتظرة في تلك الليلة الطويلة شهرزاد كي تخلصها من تطرف شهريار واستبداده عندما كان يتزوج الفتاة الجميلة، ثم يقتلها بعد أول ليلة إلى ان جاءت شهرزاد القائلة «إني أخذت في هذه القصص لأحقن دمي، وأعصم نفسي من الموت، وأخلصك من سفك الدماء».
لقد علّمت التجارب هذه الأمة العظيمة احترام النموذج الأكثر كمالاً ومنطقية وواقعية، واحتقار النموذج المتآكل الذي يخرج في الكوارث شاهداً على ارتزاقه وموت أمته واستجابة فذة لتحديات حب المال والسلطة ليكون أول حاضر في ساحة توزيع التركة كما حضر أسلافه من خوارج وثوار ومرتزقة في كل معركة تواجه الأمة فيها خطراً يهددها من الخارج ليمارس مهمته في خدمة الأعداء عن طريق تهيئة الساحة لهم بعد ان بث ما يفكك المجتمع وطرح ما يفشل أي التحام تحتاجه الأفراد لصد الخطر، فلماذا يسعى الحركيون إلى زج مجتمعاتهم في ساحة ذلك الصراع مع الأمم الأخرى، شاهدين على أنفسهم بأن الصعوبة ليست في المجاهدة لنيل غاية هداية الناس، وإنما الصعوبة في عدم وجود غاية أساساً غير السلطة؟ وان أوجع شيء على الإنسان المسلم ألا يرى في صورة غده أية بارقة أمل أو هدفاً يسعى إليه. ذلك الهدف الحركي الذي أفسدته الحاكمية فشتت شمل الأمة من خلال عسف النصوص والقراءات الخاطئة تمهيداً للثورات والمحن الكبرى، متجاهلين أنهم يجهزون الضحية للجلاد الطارئ بعد تفرق المجتمع المهزوم فكرياً على يد جماعات تطل برأسها كالأفعى في الأزمات والطوارئ كما فعل قبلهم الباطنيون في معارك الأمة عندما شكلوا جبهة داخلية مهمتها اختراق الصف وتهيئة النفوس لقبول الخسارة وغبار عربات الغزاة التي فرشت خارطتها على قارعة الطريق لمعرفة ما لها وما عليها، في هذا الوقت تحديداً يجب الاتحاد والتماس العذر والالتفاف حول ولاة الأمر واحترام العلماء، لأن الكرة الأرضية قد تعرت وتعذر سترها وحشرنا الآخر في زاوية ضيقة ومرحلة مختلفة بسبب الإحراج الذي حصل لنا من تفجير مركز التجارة العالمي وسفارات الولايات المتحدة الأمريكية مما أدى إلى تشوه الفكر الإسلامي ببثور طفحت على الجلد وأوشكت على التقيح، ودفعت بالعالم ان يفرض علينا وصاية لا نعلم متى تنتهي بحجة علاج تلك البثور السرطانية.. الآن ندفع قيمة الاختزال والتشرذم وتسديد ديون لم نقبضها ولو بأيد مشلولة، الآن الآن ندفع ثمن أبواق صورت الصراع بين الغرب والشرق بهذا الشكل المخيف، وهذه الطريقة السادية مما أدى إلى ضرب الجهود الدعوية والهيئات الخيرية والمراكز الإسلامية وتجميد الأرصدة ومساءلة حتى المرضى والمجانين على ظهر عربة فولاذية في اسطبل ماسوني يحرسه اليهود والنصارى... فمن المسؤول عن الهزيمة الفكرية التي اكتسحت ذاكرة الأمة غير هؤلاء الأوصياء المتخلفين الذين لا يستطيعون قراءة ما يتجاوز أرنبة أنوفهم، فيدخلونها بأهوائهم ويخرجونها أيضاً بأهوائهم دون رد على فتاوى هيئة كبار العلماء؟، بل وصل الأمر إلى ان يتصدر متخصص في علم الزراعة لينظر في هذه الأمة المكلومة ويجعل من نفسه وصيَّاً وممثلاً شرعياً لهذا الشعب العظيم، فيصف نظامه السياسي بأنه من أحسن الأنظمة السيئة، وهو إلى وقت قريب يدعو إلى الهجرة عن هذا الشعب إلى بلد آخر بحجة الخلافة الراشدة التي فاجأت الجميع بسلوكيات الجهلة والمبتدعة والديمقراطية المصنعة.
ولا أريد ان أتحدث عن القضايا التي طرحها ابتداء من تهميش نضال الملك فيصل رحمه الله الإسلامي وإنشائه منظمة المؤتمر الإسلامي وإخراجه جماعة الاخوان المحكوم عليهم بالإعدام من سجون بلدانهم وجلبهم إلى أرض المملكة العربية السعودية ونقلوا معهم نشاطهم الحركي دون مراعاة لموقف دولة جمعت شتاتهم فأحرجوها عالمياً ومحلياً ومروراً بثنائه على القدوة في نظرة ابن لادن مع ان التهم التي ذكرها عنه قد ثبتت على لسانه ولسان أتباعه، وانتهاء بنيله من مبادرة الأمير عبدالله التي أطلقها حرصاً على الدماء الفلسطينية ومقومات الحياة لإخواننا هناك، ولم يفكر كما يفكر من يدفعهم إلى الانقراض من خلال تنظير في مكتب مملوء بالورود والهواء البارد وما لذَّ من طعام وشراب، وقال عن المبادرة إنها لا تمثل الشعب السعودي ونسي أنها تتفق مع رؤية إسلامية وفتوى شرعية صادرة من إمام الأئمة ابن باز رحمه الله تعالى، ولا يمنع اتفاق المصالح السعودية من دعم قضايا الأمة كالجهاد الأفغاني حتى وإن كان حق الشيوعية هدفاً رأسمالياً بالنسبة لأمريكا فهو هدف شرعي بالنسبة لنا، وهذا يمكن ان يشمل وقوف الملك فيصل أمام المد الناصري القومي أيضاً.
إن تصعيد المواجهة مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على لسان الحركيين في الفضائيات والأشرطة والكتب ستدفع الأمة ثمنه سياسياً واقتصادياً ولن تستفيد في النهاية شيئاً يذكر لأننا في مرحلة أشبه بالمرحلة المكيّة التي اقتصر فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم على الدعوة والسلام وعدم المواجهة لأولئك الذين أهانوه بوضع القاذورات في طريقه وأشلاء الجزور على رأسه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم وكان يأمر أصحابه بالصبر والاحتساب وعدم مزاحمة المشركين في طرقاتهم وأسواقهم ومنتدياتهم إيماناً منه بما تتطلبه كل مرحلة من مراحل بناء الدولة المسلمة، تلك الأم التي يتسع صدرها لأبنائها، فتسمح بشيء من العقوق يتجسد في قبولها النقد الإصلاحي، ولا تعده نقضاً لوجودها بشرط أن يكون ذلك وفق ضوابط شرعية وقنوات رسمية تبعد بالرعاع والشارع عن الهيجان السياسي والاضطراب الذي يكلف المجتمع أمنه واستقراره، بل ان الاختلاف في بعض وجهات النظر يعد تلقيحاً من أجل مناعة أشد في وجه الميكروبات والفيروسات التي تتغذى على عدوى الفكر الوافد حتى تتجاوز بعظمتها وشموخنا وكبريائنا مرحلة طفولة الجنس البشري في ديمقراطية أثينا قبل خمسة وعشرين قرناً على الرغم من ان سدس سكانها كانوا عبيداً تملكهم الطبقات الارستقراطية بل إنها باعت فيلسوفها هوميروس الذي قيدته وهو يصرخ الحرية الحرية على الرصيف، واعتقلت أفلاطون وسجنته في سلاسل الاستعباد وأعدمت سقراط بالسم، لكن هذه القضايا لم تشوه حضارة أثينا؛ لأن العلاقة بين الأم وأبنائها تجاوزت كل أزمات الثقة فلم يصل ابن من أبنائها ما وصل إليه ابن (نيجيريا) في القرن العشرين عندما قال عن (أمه) إنها مدعية وقبيحة وذات نزعة عميقة للانتحار وهي أيضا قذرة وأشبه بمقبرة؛ لأن الأعراف والقيم والمثل والأديان والتمدن يقف أمام هذا الشعور الفوضوي والعقوق المنكر الذي لم يدرك أن زوجة الأب قد تشارك الأم في العواطف والمبالغة في استرضاء الزوج في رحمة ابنائه اليتامى إلا أن الأم تختلف عنها في شيء واحد ألا وهو التسامح حتى مع الخطايا، وتتنازل عن حقها وذهبها ورضا زوجها أحياناً في مقابل مصلحة ابنها ولو كلفها ذلك الموقف الخطر والتهديد والطلاق ببينونة كبرى.
أيها السادة:
عندما توصل (ميلانو كوندير) إلى ان الدولة الحديثة كلما صغرت كبر نشيدها الوطني نسي أننا في هذا الوطن دولة كبيرة ذات نشيد كبير أيضا وتقاوم القبح والفاقة والتطرف والفساد والعقوق بقلب كبير يحتوي الآخر حتى مرحلة الخطأ... أتدرون لماذا؟
لأنها أمنا الرؤوم باختصار.
والله من وراء القصد

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved