حكيم (توج نفسه، ثم صفق لها، فصار القاعدة ورأس الهرم) قال عن عرض مسرحي أنا لم أفهم منه شيئا، ووجده فارغاً ولا يمكن ان يكون عملاً مسرحياً.
بعد فترة ليست بعيدة.. حصد العمل جوائز في مهرجان المسرح السعودي الثالث فصرح حكيم الذي توج نفسه.. من حجرته التي ضجرت منه: «تجارب بسيطة».
رشح العمل المسرحي لمهرجان دولي في المسرح، فحصدت المملكة من خلال هذا العمل على أول جائزة دولية «إذ نال جائزة أفضل نص مسرحي مبتكر في المهرجان الدولي للجامعات».
وقبل هذا كله، أشاد العديد ممن لا يثق بهم «حكيم نفسه» ويثق بهم المخرج وفريق العمل، اشادوا بالتجربة..
لم اذكر هذه المقدمة إلا لأتخذها عنواناً لموضوع اراه غاية في الأهمية، هو: علاقة العرض المسرحي بالعصر.
بما ان النص الدرامي المتكامل والحقيقي.. هو احد مرتكزات الخطاب المسرحي لهذا ينبغي ان نسلط الضوء قبل كل شيء على العلاقة التكاملية بين النص والعصر.. خصوصاً اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار انعكاسات النشاط الإنساني على البناء النفسي للمؤلف من جانب وعلى الجدل القائم بين المؤلف وأهم مظاهر أسس بناء العصر، فالقيم أزلية ولا تتغير معاني مفرداتها من عصر لآخر.. إنما الذي يتغير هو شمولية التفكير، واتساعه او انحساره لدى عامة الناس تجاه هذه القيم.. وبنظرة بسيطة نستدل على ان لكل عصر مفرداته، تداولها الكاتب والشاعر والرسام والموسيقي وغيرهم.. فلو تأملنا العصر الاليزابيثي على سبيل المثال سيمكننا تحديد ملامح عامة لذلك العصر.. تتعلق بالقيم الكبيرة.. والتي تحدث عنها أدباء العصر الاغريقي الأول منذ ولادة الدراما على يد ثسبس واسخيلوس وسوفوكلس وكذلك ملاهي يوربيدس ومن تلاهم فيما بعد.. إن هنالك لغة تحدد ملامح العصر وأولوياته، والعصر بدوره يحدد ويبلور تلك الأنشطة الإنسانية الإبداعية. وفي كلا الإشارتين نجد تباينا في الطرح وفي تكوين الجمل واختيار المفردات والتشبيه.. وهو ما يتعلق ايضا بحاضر الأعمال الدرامية الحقيقية. فلكل عصر لغته.. كما ان لكل عصر طرائقه المختلفة للتعامل مع القضايا الكبرى والأساسية التي تتعلق بنشاط البشر في هذه البقعة من الارض او تلك.. إننا ينبغي ان نحدد المتغيرات الأساسية في الذات عبر العصور.. لأننا ينبعي ان ندرك ان وقع المفردة.. بذاتها.. على السمع.. يختلف ايضاً من عصر لآخر. فالنبل، والشجاعة، والكرم، والخيانة.. وغير ذلك من الصفات.. تتوارثها الوقائع.. وتتوارث معانيها الأجيال.. إلا ان وقع المفردة على النفس تعرض لمتغيرات.. رغم عدم الاختلاف على المعاني الأساسية لتلك الصفات.. إلا ان لكل عصر ما يكفي من التجارب الإنسانية المضافة.. والمتعارضة والتي تنعكس على رد الفعل الجمعي، والفردي، تجاه تلك الصفات.
والتفكير في هذا الاتجاه يحتم علينا عدم تناول الصراع في الدراما كموضوع خاضع لقياسات وأساليب تعلمناها واعتبارها مسلمات غير خاضعة للجدل الفكري والتأملي والتحليلي الذي يقره العصر.. وهنا يأتي دور البحث في النشاط الإنساني باعتباره القدرة المحركة للعصر، وتتجسد أمامنا الخيارات كما لو أنها دروب سلكت من قبل، إلا ان ناس تلك الدروب قد رحلوا.. في حين ان طريق البحث، رغم كونه غير واضح النهايات إلا انه طريق العصر.. وهو معبأ بالنشاط والجدل.. مليء بالصور غير الثابتة، والتي قد تكون اجمل او أقل جمالاً، من تلك الصور المعلقة.. كدروب الأزمان القديمة. اكتملت، ونضجت، واتسعت. لكننا لو أردنا سلوكها؛ مهما كانت اساليبنا.. فإن عصرنا سيضع ملامحه.. ويضيفها على التجربة.
والبحث.. هو الخطوة الأولى لأي مشروع.. علمي ام معماري ام أدبي.
وعلى هذا الأساس فالتجربة -أي تجربة- إذا خلت من عنصر البحث فقدت أولى مقومات بنائها وديمومتها.. ونضجها، ومن هنا يرتبط البحث بالخطوة الأولى للإنتاج في أي عصر كان.. ولا نقول التأمل، لأن ذاك عنصر مواز للبحث في عملية الإبداع الفني، أما الإنتاج فخطوة تلي البحث ولا تتقدم عليه بأي شكل من الأشكال.
فالمختبر المسرحي لا يمكن ان يكون دون بحث مسبق، وسعي الممثل لتطوير أدواته وحسه.. يكون عبثاً اذا لم يدعمه البحث، وكتابة النص لا تخلو من بحث دؤوب.
ثم تأتي تجرية تقديم العرض المسرحي، والتي لا يمكن ان تتبلور دون بحث متواصل وتأمل وشغل يومي «إنتاج»، كما في أي معمل لإنتاج مادة ما.. إلا ان الأمر في العملية الإبداعية اكثر تعقيداً وخطورة.
واذا سلمنا ان البحث أساس التجربة المسرحية، فإن الأمر قد يقودنا الى جدار صلد.. عال، صعب تجاوزه، وكلما اتسعت مساحة المعرفة.. وتراكمت كانت دعائم لذلك الجدار، مما يجعله أكثر سمكا.. في المخيلة.. وكلما اتسعت المعرفة بالإنتاج المسرحي عبر العصور، أصبحنا اكثر ادراكا لحقائق جمة تتعلق بالإنتاج الفني وخصوصية العصر ومن أهمها: لا توجد فكرة لم تطرح من قبل.. فكل الأفكار طرحت بلا ريب عبر عصور متعاقبة خاصة اذا ما أدركنا ان حقائق الصراع الدرامي يمكن تكثيفها بثلاثة محاور واسعة:
المحور الأول: صراع الإنسان مع نفسه أو مع الآخر.
المحور الثاني: صراعه مع الطبيعة.
المحور الثالث: كيفية استجابته للمثل العليا، خاصة في العصور القديمة.
ولو تأملنا فكرة أي عمل مسرحي، ستكون بلا ريب داخل سطوة هذه المحاور التي تناولها المبدعون عبر العصور.. من المآسي الاغريقية، وملاهي ارستوفانيس الى مولير ومن صراع الواجب عند راسين الى صراع العواطف النبيلة عند كورني ثم من طبيعة بلزاك إلى رمزية ابسن.. الى تعبيرية اونيل، الى واقعية غوركي، وشعرية بوشكين ولوركا.. وهكذا.. إذن فالأفكار حتماً قد طرحت.. فهل سنجترها من جديد..؟.
للإجابة على هذا السؤال علينا إثبات حقيقة بحثية وهي: ان من يرى ان كتابة النص عملية بين عنصرين هما المؤلف والفكرة يكون حتماً قد حكم على التجربة النصية بالتكرار واجترار الماضي، ومسخه ربما. أما حقيقة كيف تكون الأفكار نفسها جديدة فذلك يحيلنا الى رسم عملية انتاج نص مسرحي تتطلب ثلاثة عناصر وليس اثنان.. والثلاثة هم المؤلف والفكرة والعصر «فالعصر هو من يعيد إنتاج الأفكار ويجدد الصراع».
والحقيقة الأخرى تتعلق بالأسلوب، وبنظرة سريعة ندرك مقدار البحث الإنساني على مر العصور في هذا المجال فمن عصر الكلاسيكية الى الكلاسيكية الجديدة الى الرومانتيكية الى الواقعية.. وصولاً لأحدث التجارب المسرحية سواء في مجال النص او في مجال العرض المسرحي وتطور خطابه، ولا بد من التأكيد انه لا وجود للعصر كطرف في عملية انتاج الاسلوب بشكل مباشر وإنما المعادلة تأخذ شكلاً آخر يشير إلى ان الإنتاج البشري على مر العصور يكون بمثابة الخزين المعرفي للمؤلف، وهذا تجسيد آخر لعلاقة المنتج «بفتح التاء» بالعصر. اما الحس الإبداعي فهو خاضع بلا ريب لسطوة الذات، وما لها من قدرات تكون قد نهلت مسبقاً من المعرفة، إلا انها تضع التأمل حجر ارتكازها، والقدرة على تحويل الخطاب المتأمل الى خطاب نص او عرض حي هي قدرة إبداعية بلا ريب.. تولد بملامح عصرها، مؤكدة العلاقة الجدلية بين النص والعصر. نترك لحكيم نفسه.. تصريحاته.. وأحكامه ونفتح نوافذنا بشفافية عالية.. لأحكام العصر ومبدعيه.
أمير شمخي الحسناوي |