غبت عن جدة عدَّة سنوات، ونزلتُها هذا العام، منذ بضعة شهور، لقضاء بعض الوقت مع أسرتي عندما حطّ بنا الباص في المحطة، أخذنا سيارتي ليموزين، أخذت تطرد بنا الشوارع، لساعتين كاملتين، للبحث عن شقة مفروشة نمدِّد فيها أجسادنا، بعد تعب الباص، الذي كان مليئاً ورطباً، في رحلته من المدينة المنورة الى جدة، «أم الرخا والشدَّة» كما يسميها أهلها، وهي كذلك فعلاً وقولاً، فقد كانت الشقق على كثرتها، كاملة العدد، ولأن الرخاء يأتي أحياناً بعد الشدة، فقد أكرمنا الله بشقة في حي بات شعبياً بعد أن كان أرستقراطيا، حين استوطنت هذه المدينة، في نهاية التسعينيات لعام كامل، كانت الشقة بسيطة، وتشبه في تعرجاتها بيت جحا، ولأن الجود من الموجود، فقد دفعنا فيها خمسمائة ريال في الليلة الواحدة ومعها حبة رأس، ونمنا ليلتها بعمق، بعد أن كدنا ننام على أي رصيف يواجهنا، من كثرة بحثنا عن مكان يأوينا، كأن الناس كلهم أتوا قبلنا إلى جدة، فاحتلوا الشقق والفنادق، فلم نجد مانبحث عنه وما كنا ندخله ونخرج منه متأففين من الفنادق والشقق، نحن الآن في حاجة إليه، وصاحب الحاجة ليس أرعن دائماً، وهكذا كنا بامتياز!
في اليوم التالي، وبدلاً من أن نستيقظ على صوت العصافير استيقظنا على أصوات الغربان التي احتلت رؤوس الشجر، سحابة كاملة من السواد، لها نعيق غريب ومدهش، سألت نفسي عن ماذا تبحث الغربان في جدة؟ ولم أجد الجواب للأسف، إلا في الأكوام المتتالية من النفايات، نفايات بدون حدود، أين عمال البلدية؟ أين وعي الناس؟! طرحت عدَّة أسئلة، ثم أخذت طريقي باحثاً عن الفول والفحم والجراك والصحف. الكل نيام إلا أنا كأنني على موعد مع التعب، التعب المجاني للأسف، فما أسعى إليه في هذا الصباح المالح لا معنى له، كان بإمكاني أن استمتع بهواء المكيف والسرير حتى وقت متأخر، لكن هكذا نحن المتقاعدين، ننام متأخرين، ونصحو مبكرين، وعليكم عكس العبارة عندما نكون على رأس العمل أي عمل!!
في المساء استأجرنا سيارتين صغيرتين، أخذتا تنهبان الطريق باتجاه البحر والمناطق الراقية، لكي نكحل أعيننا بالمعروضات وبموج البحر، الزحام على أشدِّه في كل مكان، إنها إجازة العيد، الصواريخ النارية تنطلق في كلِّ مكان، أصوات السيارات، شَغَب الشباب، وعندما تأخذ ركناً على الكورنيش، سوف تخرج لك من الشقوق القوارض، التي ألفتها سابقاً ، والتي حارت البرية فيها، حتى غدت مميزات السواحل، ومع هذه القوارض الغربان مرة أخرى.. وفي كافة الاتجاهات، لاحظت أن البنايات الفارهة، أخذت شيئاً فشيئاً تُحكِم الطَّوق حول البحر، حتى أحسست بأن سكان هذه البنايات وحدهم، الذين سوف يستمتعون في مقبل الأيام بهواء البحر، إن لم تفعل البلدية شيئاً صارماً يجعل الهواء البحري كالماء من حق الجميع! كانت جدة بهيَّة وكريمة معنا، فهي مثل العهد بها، قادرة على احتضان الجميع، الغني والفقير، القادم بالباص والقادم بالباخرة والقادم بالطائرة، لذلك تستحق هذه المدينة من أهلها ان يجدوا حلاً لهذه البثور الصغيرة، جداول الصرف الصحي والغربان والقوارض..
|