مدخل:
يحتاج الإنسان عادة إلى الترفيه عن نفسه وأهله فيسيح في أرض الله العامرة لأهداف مختلفة. وتحاول عدد من الدول توفير مناخ سياحي جذاب نظراً لمردودات الصناعة السياحية الإيجابية على قطاعات كثيرة. ونظراً لما لهذا المرفق من أهمية بالغة يلاحظ أخيراً اهتمام الدولة وقطاعاتها ومحافظاتها بقضية السياحة وتفعيل دور القطاع الخاص للاستثمار الأمثل لهذا المجال الحيوي الهام.
ولعل من أهم ما يدعو الإنسان للكتابة عن هذه القضية ذلك الهدر المالي الكبير الذي يقدر بمليارات الريالات التي تصرف على سياحة الخارج، اضافة إلى الآثار السلبية المحتملة من السياحة الخارجية في أثرها المباشر وغير المباشر على المحيط السياسي والثقافي والاجتماعي والأمني. وفي محاضرة لأمين عام الهيئة العليا للسياحة الأمير سلطان بن سلمان أشار إلى «أن السعوديين قاموا بما يزيد على 4 ،4 مليون رحلة سياحية - عام 2000 - اشتملت على ما يزيد على 100 مليون ليلة إلى الخارج وبلغ متوسط إنفاقهم في الليلة الواحدة 135 دولاراً مما يعني أن حجم الإنفاق على السياحة الخارجية تجاوز 14 مليار دولار وبالتحديد 54 مليار ريال سعودي».
أوَليس هذا بالأمر العجب؟!
ثم ألا يستحق هذا المرفق الحيوي اهتماماً أكثر جدية ومسئولية؟
إن محور اهتمامنا في هذا المقال هو محاولة عرض لبعض القضايا والآراء التي من خلال صفحات «جزيرتنا» نحاول (اقتراحاً) تجنيب سياحتنا الداخلية مساوىء السياحة الخارجية من جهة، إضافة إلى طرح بعض التصورات التي نرفعها إلى صنّاع السياحة الداخلية والتي نحتاج إلى مراعاتها إن أردنا صناعة سياحة متميزة لبلد متميز.
محتوى:
لو كنت أمريكياً أو فرنسياً أو يابانياً... إلخ وأتيت سائحاً لبلاد كالمملكة العربية السعودية لأحببت أن أرى ما تتميز به هذه البلاد من عادات وسلوكيات وتراث.. إلخ من موجوداتها الاجتماعية والثقافية والبيئية. ومن هنا ابتداءً فمن الجميل أن يرى السياح ما نتميز به «عنهم» لا أن نكون نسخة مكررة «منهم» فتلك مفسدة للسياحة ومقبرة لها. وخذ «الجنادرية» كمثال «رائد» في عرض صنوف من ثقافتنا المحلية ومهننا التقليدية وحرفنا التجارية وغيرها مما ينشد له المتفرج سواء من الداخل أو من الخارج، هذا لا يعني الاقتصار على ممارسات الماضي بل يجب أن يكون لإبداع الحاضر «السعودي» مجال للعرض حتى نجمع بين ما يسمى اعتياداً ((الأصالة والمعاصرة)).
إن الشيء الذي يختصر لدينا الطريق، بل ويفعّل عملية السياحة ويعطيها نكهة خاصة هو التأكيد على ألا يطغى هاجس الجذب السياحي على مسلمات الدولة الثقافية والأمنية والاجتماعية. ومن أجل الاقتراب من ذلك هذه بعض المقترحات والتصورات والتوصيات:
أولاً: من الناس من لا يريد فتح باب السياحة مطلقاً لأسباب يراها، ومنهم من يرى أهمية فتح أبواب السياحة بإطلاق من أجل أن تلبي رغبات جميع السائحين «ودائماً ما يأتي الاحتداد من أصحاب الزوايا الحادة يمنة ويسرة». وهنا فنحن أمام معادلة صعبة، ويزيد من صعوبتها وحساسيتها أننا في بلد ((أمين)) هو ملتقى وجوه المسلمين كلهم خمس مرات باليوم - على الأقل - فما العمل؟
والذي نظن أنه دائماً ما يتجنب الصواب أولئك الناس الذين ينظرون بعين واحدة أو لإرضاء فئة واحدة على حساب سواد الناس الكبير.. وابتداءً، لا يجب الخلاف على أهمية ترويح الناس وإمتاعهم فكل من الشرع والعقل يدعو إلى ذلك، بل ويرغب فيه. والمسألة هنا ليست على الموافقة وإنما على تكييفها بما يتناسب ومتطلبات الناس ومراعاة مشاعرهم. ومن هنا فمن الأهمية بمكان توفير ما يتطلبه ((المجموع)) لا ((الممنوع)). وللحقيقة نقول بأنه ليس من العدل أن نجني على خصوصيتنا وتميزنا بتوفير المحظورات التي تخل بالأمن وتفسد العقل وتنزع الحياء وتجلب البلاء (ولمن؟). ومن لا يحب هذه الحدود فعليه بنفسه أن يتخطى الحدود ومن ثم فسيجدها بلا قيود. وأملنا أن يعكس الجميع تميزهم أينما كانوا وحيثما حلوا.
ثانياً: يتردد على ألسنة الناس كثيراً مشكلة غلاء الأسعار للسياحة في الداخل. والحكم على صحة هذه الأقوال يخضع إلى عمليات مختلفة سواء بمقارنتها بالدول الأخرى التي تصح مقارنتها بالسعودية - بسبب اختلاف عملة الصرف - أو باختلاف مواسم السياحة من بلد لآخر أو لغيرها من الأسباب التي قد تعكس حالة أو حالات فردية أحياناً. ولسنا هنا نريد الإنكار على المؤجرين أو الوقوف مع المستأجرين، ولكننا نحاول أن نخرج برؤية معتدلة أهمها «ألا يشعر أحد الطرفين بالغبن من قبل الآخر» بمعنى «أن يكسب الجميع». والذي أتصوره أن مثل هذه الرؤية تحتاج إلى أن تقف خلفها جهود وجهات على رأسها «الدولة» ممثلة في «الهيئة العليا للسياحة» حيث تتبنى مشروع متابعة أسعار المساكن وفق دراسة متأنية يشترك فيها من يهمه الأمر، وتراعى فيها فوارق الزمان والمكان. والذي يجب أن نقتنع به كمستثمرين للسياحة أن عقلية الاستثمار في مشروع كبير وبعيد المدى يحتاج إلى استراتيجية بعيدة المدى حيث إن محاولة اكتساب الزبائن «السياح» واستمراريتهم هو في حد ذاته نجاح.. والتالي استمرار المكاسب وإن قلت نسبياً أفضل من تعثرها وإن كثرت وقتيا». إن عشوائية الأسعار التي يتلاعب فيها (الصغار) - وربما الوافدون - قبل (الكبار) هي مفسدة، بل ومقبرة للسياحة.
ثالثاً: يأتي الإنسان إلى عدد من المدن السياحية فلا يدري أين يذهب؟! لا من حيث الأماكن السياحية أو السكنية ولا من حيث العروضات الترويحية. وهنا فالحاجة ملحة إلى وجود مراكز متعددة لخدمة السياحة والسياح بحيث يتجه إليها القادم ليأخذ تصوراً واضحاً لكل ما يخدم رحلته. ولعل هيئة السياحة توفر أماكن محددة مثل «الأكشاك» أو زوايا محددة في أماكن مناسبة «كالأسواق المركزية» أو الشقق السكنية توفر فيها الخرائط والمجلات وغيرها من الخدمات التي يحتاجها كل سائح.
رابعاً: من الأفضل أن توضع برامج سياحية شاملة من قبل شركات أو مؤسسات متخصصة - تقوم بالإشراف عليها الهيئة العليا للسياحة - تقوم على خدمة السائحين ووضع البرامج لهم. وهذه القضية تتأكد أهميتها بالخصوص للسائحين من الخارج، حيث يأتون وليس لديهم أي تصور عن مدن البلاد ومناطقها السياحية. ولعل هذه الشركات والمؤسسات تخدم أيضاً في ضبط السياحة والسياح من خلال احتوائهم وعدم عشوائية تنقلهم أو تأثيرهم السلبي.
خامساً: من المحتمل أن يكون لدى السائح من الخارج خلفية عن محافظة المجتمع السعودي على قيمه وثقافته، وهنا فالسائح - الوافد - يحاول أن يتعامل مع المجتمع وفق هذه الخلفية، وليس أدل على ذلك من مشاهدتنا لكثير من الزائرات حتى ذوات المسئوليات الدبلوماسية الرفيعة من ارتدائهن للباس الساتر، بل وغطاء الرأس أحياناً. وهنا فالمقصود أن يتنبه أبناء المجتمع أولاً بأن «تصرفاتهم تنعكس على رؤية غيرهم لهم» وثانياً أولئك المسئولين عن أماكن السياحة والترفيه من حيث احترام أوقات الصلاة وتجنب الصخب الذي لا يحتاجه القادمون من الخارج فلديهم - في بلادهم - ما هو أكثر صخباً وضجيجاً.. وقد حدثني أحدهم أن السائح من الخارج يأتي لينشد الراحة والاستمتاع بثقافات الناس.. وهكذا غالب السياح الأجانب. وعلى هذا فليس هناك من حاجة في جذبهم بأشياء لا تشكل أهمية بالنسبة لهم، وبالتالي فالتميز ليس في ترديد أو تكرار ما يفعله الآخرون وإنما في صناعة سياحة مبدعة تنبع من واقع المجتمع ولا تتسول قيم الغير وأفكاره.
سادساً: يلاحظ بأن عدداً من الأماكن السياحية والألعاب الترويحية يقوم على إدارتها عدد غير قليل من «الوافدين» وهؤلاء غالباً لا يراعون ثقافة المجتمع وقيمه. وقد جلست وأهلي ذات مرة في أحد المتنزهات لنأكل شيئاً وإذا بأنغام «الروكي» تهز «الحيطان» فطلبت من أحد المسئولين شيئاً من الراحة والهدوء فأجابني بالقبول «على مضض»، وما أظنه يفعل ذلك ابتداء - أي يتباهى بالروكي - لو كان سعوديا. وكما هو ملاحظ فإن فرق الترويح السعودية تثبت نجاحات عدة سنة بعد أخرى.. ومن هنا فسعودة أماكن الترويح ليست بأقل أهمية من سعودة أسواق الخضار. ذلك أن الترويح يمس كثيراً من شئون الأمن والأمانة والاجتماع.
سابعاً: تفتقر طرقنا السريعة التي تربط المدن والمحافظات إلى جملة من الخدمات المهمة التي تشجع السياحة وتريح السياح، ومن ذلك عدم وجود الاستراحات المفتوحة للمسافرين والتي عادة ما تتضمن دورات مياه مجهزة تجهيزاً ملائماً ومصليات وملاعب أطفال صغيرة وبقالات ولوحات للطرق وأماكن السياحة.. إلخ وكل ذلك وغيره يمكن أن تعمل على إيجاده ومتابعته (الهيئة العليا للسياحة). والذي يجب تأكيده هنا أن عدداً من حوادث السيارات في الطرقات تعود إلى إرهاق السائقين وعدم وجود استراحات مناسبة للوقوف للراحة ولو لبضع دقائق، وعلى هذا فمن عوامل نجاح صناعة السياحة الداخلية توفير بل وتشجيع انتشار محطات الوقود والخدمات التسويقية ومساكن مناسبة على الطرق السريعة.
ثامناً: نقرأ كثيراً على لوحات الأماكن السياحية عدداً من المسميات الأجنبية، ولا أظن أننا بحاجة إلى ذلك - إذا أردنا التميز - فبدلاً من كلمة «Beach» يمكن تسمية «شاطىء» وبدلاً من كلمة «Fun» يمكن أن نستخدم «متعة» أو «فن».. إلخ من المسميات التي تؤثر على هدف التميز الذي ينادى به «صناع السياحة». فهل من قرار يعيد المسميات إلى أصولها العربية؟... الغريب أن كثيراً من الكلمات ليس لها مدلول واضح لدى كثير من أبناء مجتمعنا.. إلا اللهم حفظها ككلمة أجنبية.
تاسعاً: دراسة ظاهرة المعاكسات - الأسباب والدوافع - في الأماكن السياحية، حيث يأتي السائح وأهله للترويح لا للمضايقة. وهنا فلا بد من جزاءات واضحة وصارمة للذين يسيئون لتسويق صناعة السياحة الداخلية من خلال تصرفاتهم «الشائنة» والتي تعكس أثراً سلبياً على كل من نفسية السائح وصورة المجتمع عموماً. وهنا فالمأمول ((من الهيئة العليا للسياحة)) إيجاد شريحة «أمن سياحي» خاص تعلم كيف تتعامل مع هذه الظواهر وتحفظ منشآتنا السياحية وروادها، وربما يتعاون المستثمرون والهيئة العليا للسياحة في وضع تصور مناسب لتوظيف هؤلاء لخدمة استراتيجية التنمية السياحية.
عاشراً: هل يمكن إلزام المستثمرين في قطاع السياحة من الاستثمار في أكثر من موقع في مناطق مختلفة من السعودية؟ حيث إن محافظات عدة تمتلك بيئة خصبة للاستثمار السياحي، ولكن رأس المال قد يقف عائقاً أحياناً لتحقيق ذلك. ومن هنا يجيء دور الهيئة بتبني استراتيجية التنمية الشاملة لمعنى السياحة لتشمل مناطق سياحية كالجبيل وينبع والقصيم، وحقل، وضباء، ونجران، وحائل والجوف.. إلخ، فالملحوظ اكتظاظ السياح في مناطق محددة من المملكة، بالتالي ترفع الإيجارات، وتختنق الطرقات، ويزداد الملل ويصعب التنظيم، وتتحول السياحة إلى صداع لا إمتاع!
أخيراً:
من الناس من يضيق صدره وينطلق لسانه حينما يطلب منه أهله «التكرم» بسياحة مع جنابه!، ولو طلب منه زملاؤه لم يتردد لحظة؟! فلمَ هذا الجفاء مع الأهل وهذا الاستعداد للزملاء؟. إن لبيتك عليك حقاً فتمتع برياضة النفس مع أهلك كما تتمتع بها مع غيرك. إن من المؤسف حقاً أن يعيش الراعي في غفلة عن رعيته، وإذا ما أرادوا نزهة فكأنما يسألونه ما لا يطيق في حين أنه يطيق كل شيء في سبيل غيرهم، آمل ألا نكون جميعاً من هؤلاء وأن نكون جميعاً عند حسن ظن أهلنا بنا «فخيركم خيركم لأهله».
لفتة:
«أصحاب الزوايا المنفرجة والمنغلقة يحتاجون إلى مرونة العصر ليواكبوها فيستفيدوا ويفيدوا».
*جامعة الإمام، قسم الاجتماع، القصيم |