رغم مرور عدة سنوات على انهيار الشيوعية، ومحاولة الدب الروسي الخروج في أسرع وقت من المرحلة الانتقالية التي يرفع فيها عن نفسه أعباء وقيود الحقبة الشيوعية، مازالت قصة السقوط وملابسات الانهيار تستثير شهية الأقلام. وفي شكل المذكرات الشخصية حول الفترة التي قضاها في أروقة الدبلوماسية الأمريكية الروسية، يطرح «ستروب تالبوت» في كتابه «اليد الروسية: مذكرات الدبلوماسية الرئاسية» سيرة تاريخية تبتعد قدر الإمكان عن الروايات المشكوك فيها، فضلا عن دعم تصوراته بالعديد من الحجج التبريرية، المقنعة حينا، والمتهافتة حينا آخر، ورغم صعوبته، فإنه كتاب جدير بالاهتمام، بل ويحظى بقدر من الجاذبية في تناوله للسيرة التاريخية الخاصة بالسياسات الخارجية الأمريكية التي كانت تتعاطى مع الصراع السياسي مع روسيا، وعلى الأخص إبان الفترة التي تولى فيها بيل كلينتون دفة الحكم..
في كتاب «اليد الروسية: مذكرات الدبلوماسية الرئاسية»، يشعرك «ستروب تالبوت»وكأنه يكتب بقلم بيروقراطي تقليدي، رغم أنه يمتهن مهنة الصحافة، ولم يصبح موظفا حكوميا إلا بعد تعيينه من قبل الرئيس بوش كمستشار للشؤون الروسية والاتحاد السوفيتي.
ويطرح «تالبوت» فرضيتين: أولاً، لا يشعر المؤلف بأي أسف تجاه اعترافه بحقيقة ما يسمى ب «شخصنة السياسة الخارجية الأمريكية» (إضفاء الطابع الشخصي على السياسة الخارجية) تجاه روسيا في شكل العلاقة الودودة الدافئة التي جمعت بين الرئيسين السابقين الأمريكي بيل كلينتون والروسي بوريس يلتسن. ثانياً، يتناول الكاتب بالوصف الجهود الأمريكية الرائعة، على حد قوله، التي لم تعمل فحسب على إبقاء رجل الكرملين سائرا على الوجهة الصحيحة حسب المطالب والاتجاهات الأمريكية، بل وتوجيه النخب الروسية بما فيها جنرالات الجيش والسياسيين نحو قبول سلسلة لا نهاية لها من الخضوع والاستسلام ودون إلحاق الضرر بالعلاقات التي تطورت بين القطبين بعد الحرب الباردة.
وكما يقول «تالوب»: كانت اللعبة السياسية الدبلوماسية التي مارستها الولايات المتحدة مع روسيا غير مسبوقة، وتسير وفق قوانين جديدة لم تعهدها المفاوضات السياسية من قبل، فبين عامي 1993 و2000، قابل كلينتون نظيره الروسي 18 مرة، وهو عدد يزيد ثماني مرات عن عدد الزيارات التي قام بها الرؤساء الأمريكيون التسعة السابقون عليه مع القادة الروسيين السبع منذ انتهاء الحرب العالميةالثانية، وكانت لجوانب القوة واللطف والذكاء في شخصية بيل كلينتون دور بالغ الأهمية في الحفاظ على دفء العلاقات مع الروس، إلا أن المؤلف ينظر بحساسيةإلى الاتهام الموجه لكلينتون ومستشاريه الذين يتحملون مسؤولية الفساد والانتهاكات التي مارستها السلطة الروسية إبان تحول الاتحاد السوفيتي من دولة شمولية ديكتاتورية منظمة إلى دولة تتخبط في دوامة الفوضى حيث يحوز قلة قليلة الثروة في حين يعيش السواد الأعظم من الشعب على الكفاف، ويعترف الكاتب، بشكل أو بآخر، أنه ربما قد تورط في إرسال الإشارة التي جعلت الروس يطمئنون من تفهم الأمريكيين لاستخدام القوة العسكرية من قبلهم لقمع الانفصاليين في الشيشان، وفي الحقيقة، لم يكن بيد الأمريكيين إلا القليل كي يفعلوه تجاه مساعدةروسيا في تخطي المرحلة الانتقالية بصورة فاعلة وعادلة، ورغم كل العيوب المروعة التي شابت شخصية يلتسين، فإن قراره الأخير الهام، وهو اختياره لأحد ضباطه في المخابرات الروسية ( فلاديمير بوتين) كي يخلفه في منصب الرئاسة، ربما كان من القرارات الصائبة.
واللافت للنظر فعلا أن المرحلة الانتقالية التي عاشتها روسيا بعد سقوط الشيوعية لم تشهد إلا حالات محدودة من العنف الدموي، هذا على الرغم من التخبط والفوضي اللذين ضربا جنبات المجتمع، ولعل من أبرز الانجازات المدهشة التي تحققت على يد كلينتون هذا الشكل الذي تم به تفكيك الإمبراطورية الروسية والذي قوبل من جانب جنرالات الجيش وكبار الساسة الروس بالموافقة والترحاب على أساس أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار في النهج الشيوعي في الحكم أوالحياة، وكان من المدهش أيضا أن يستمر «حلف شمال الأطلنطي» (حلف الناتو) دون تأزم العلاقات بين الروس والغرب، بل وتسعى دول البلقان حاليا إلى الانضمام لهذا الحلف دون أن تجد روسيا في هذا المسعى أي غضاضة، ويسعى الأمريكيون حاليا إلى العمل على تأمين العديد من الأسلحة النووية التي كانت منتشرة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي، ويتناول المؤلف بالتفصيل كيف تمكنت الإدارة الأمريكية في عهد كلينتون، ومن خلال توظيف أكثر الدبلوماسيات تعقيدا ومرواغة، إقناع الروس الذين يكنون كراهية شديدة لدول البلقان بالتعاون مع الأخيرة لالحاق الاذى السياسي بالصديق الصربي القديم.
المؤلف: Strobe Talbott الناشر: Random House |