Sunday 14th July,200210881العددالأحد 4 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

المسافة بين القول والعمل المسافة بين القول والعمل
الشيخ سلمان بن فهد العودة

بل إن شئت فقل: هي المسافة بين الدعوى والعمل، فإن القول الصادق، القول الجاد، هو جزء من العمل، هو عمل اللسان، وهو أول عمل شرعي حسي يقوم به المكلف حين ينطق بالشهادتين، معلناً الدخول في الإسلام.
وهذا العنوان مقتبس من قصيدة الطغرائي الشهيرة «لامية العجم» حيث يقول: غاض الوفاء، وفاض الغدر، واتسعت مسافة الخلف بين القول والعمل.
لكن الشيء الذي أعنيه تحديداً -الآن- هو أهمية العمل كقيمة أساسية في الإسلام، لحفظ الدين، وعمارة الدنيا، وأن وجوب العمل قاعدة ضخمة مستقرة، تحتشد حولها مئات النصوص القرآنية والنبوية.
العمل أساس نجاح الفرد، أو فشله، وأساس قوة المجموع أو ضعفه، وأساس السعادة الدنيوية، وأساس النجاة الأخروية.
وبالتعبير الشرعي، ف«العمل الصالح» هو القيمة المعتبرة، والتي تترتب عليها آثارها المحمودة في العاجل والآجل.
وهذا العمل الموسوم بالصلاح، هو الذي تتحقق فيه الشروط الضرورية، والتي جملتها:
أ - صلاح النية، وحسن المقصد، وهو ما يعبر عنه ب (الإخلاص).
ب - موافقة السنّة، والتزام الشرع، وهو ما يعبر عنه أحياناً ب (المتابعة) أو ب (الصواب). وهما مجتمعان في قوله تعالى: {لٌيّبًلٍوّكٍمً أّيٍَكٍمً أّحًسّنٍ عّمّلاْ}.
فحسن العمل يدور على هذين القطبين، أي: أكثر إخلاصاً لله، وأكثر إصابة للشريعة، والتزاماً بالمنهج، ولهذا لم يأت في النص القرآني التعبير ب: أيكم أكثر عملاً.. وكلمة الفضيل بن عياض في هذا الباب معروفة، قال في تفسير آية الملك: {أّحًسّنٍ عّمّلاْ}: أخلصه وأصوبه؛ فإن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. (وانظر: العبودية لابن تيمية).
ولقد حاولت أن أحصي المواضع التي وردت فيها كلمة «العمل الصالح» في القرآن الكريم، بتصريفاتها، مع المحافظة على اللفظين، فوجدتها نحواً من تسعين موضعا. أما كلمة «العمل» مع وصف آخر غير الصلاح، أياً كان، أو مطلقة غير موصوفة، فهي أكثر من ذلك بكثير، إنها حسب إحصاء سريع... نحو من ثلاثمائة وستين موضعاً، ولا يخلو سرد تصريفاتها من فائدة: عمل، يعمل، يعملون، اعمل، اعملوا، عامل، عاملون، عاملة، عمل، اعمال...الخ. (انظر: معجم ألفاظ القرآن، إخراج مجمع اللغة العربية 2/249 - 252).
إنها إشادة صريحة بأهمية العمل وقيمته وضرورته للحياة، بل وللموت أيضاً، حتى الموت هو عمل يتدخل فيه جانب الإرادة، ولهذا قال سبحانه: {فّلا تّمٍوتٍنَّ إلاَّ وّأّنتٍم مٍَسًلٌمٍونّ}.
ولقد قامت في مدارس الفلسفة الغربية - والأمريكية منها على وجه الخصوص - سوق رائجة حديثاً للاتجاهات التي تهتم بالعمل والإنجاز والأداء، وتعتبر هذه فلسفة الحياة الحقيقية، دعك من الفلسفة التي يسمونها «براجماتية» وهي النفعية الواقعية التي تعتبر أن مقياس الحقيقة في المعرفة هو وجود نتائج عملية ملموسة لهذه المعرفة، أي: أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المفيدة للممارسة، وليست المعرفة النظرية المجردة، المقطوعة الصلة بالواقع (انظر: قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سامي ذبيان وآخرون، ص85).
إن تلك الإشادة الربانية بقيمة العمل تحمل تسفيهاً مباشراً، لاتجاهين جائرين عن المحجة:
(أولهما) الاتجاه العامل على غير هدى ولا بصيرة، والذي لا معرفة له بالأسباب الشرعية والطبعية، أولئك الذين يوصف عملهم بأنه سيئ، أو شر، أو حابط، أو خبيث، أو خاسر.. فإن كان هذا العمل دينياً لم يقبل، ولم يرفع، ولم تحصل به نجاة في الدار الآخرة.
وإن كان دنيوياً لم يؤت ثمرته المطلوبة، ولم يحقق نتيجته المرقوبة، لأنه لم يكن مبنياً على نظر صحيح، أو تجربة صادقة.
(2) عّامٌلّةِ نَّاصٌبّةِ (3) تّصًلّى" نّارْا حّامٌيّةْ (4) تٍسًقّى" مٌنً عّيًنُ آنٌيّةُ (5)} وقال: {قٍلً هّلً نٍنّبٌَئٍكٍم بٌالأّخًسّرٌينّ أّعًمّالاْ (103)} الآيات.
(26)}.
وأجلى صورة معاصرة لذلك الشيوعية بقاعدتها الفلسفية، وبنائها السياسي والحضاري، الذي تهاوى بطريقة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين، وعادت إنجازاته عبئاً عليه... كيف يتخلص منها، كيف يوقف تراجعها السريع، كيف يحافظ على الحد الأدنى منها؟... الخ.
أما (الاتجاه الآخر) فهو الاتجاه الراكن إلى القعود، وترك العمل، والإخلاد إلى الدعة، الاتجاه الغافل عن سنن الله، فهو يريد ان تأتيه أمانيه طوعاً بلا كدٍ ولا تعب، وهذا، وإن كان صعب التحقق لما في طبع الإنسان من الحركة والفاعلية، إلا انه متحقق من وجوه أخر، تبدو في أولئك المسترسلين وراء كل شهوة أو رغبة، المتقنعين تحت اسم أو شعار ظنوا أنه يكفيهم..
فاليهود كانوا يقولون: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. ثم جاء النصارى فقالوا مثل قولهم، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه. ثم خلف من بعدهم خلف من المسملين ورثوا الكتاب - يأخذون عرض هذا الأدنى.. ويقولون: سيغفر لنا!، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، نعم؛ كانت الآية لليهود والنصارى، لكنها للمسلمين واجبة أيضاً؛ إذ السنة واحدة، وكما قال حذيفة رضي الله عنه: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر...!
كما أنه متحقق في أولئك الذين لا هدف لهم، ولا غاية يسعون إليها، فهم أسرى للصروف، والظروف، والأعمال التفصيلية، والمجريات اليومية والأحداث الآنية، لا ينتظم سلوكَهم منهجٌ، ولا يربط بين أعمالهم رابط غارقون في أعمال ليس لها معنى، فأحدهم يعمل في الوظيفة ليسدد أقساط البيت ويسكن في البيت لينام ويأكل ويشرب، ويشرب ويأكل وينام ليستقوي على أداء العمل..!، دوامة آلية ليس لها روح، ولكن الغارق فيها قد يلهو حتى عن إدراك الخلل... بل الخواء الذي يكتنفه. وأبعد من ذلك مهوى، أصحاب المدارس الفلسفية الخاوية، كالسوفسطائية من المتقدمين، والعدميين من المتأخرين، الذين يرون ألا قيمة للعقل، ولا قدرة له على المعرفة، وما يعده الإنسان وجوداً هو في الحقيقة لا شيء، ويرفضون القيم الأخلاقية، ويسعَوْن للهدم دون ان يمتلكوا البديل الصالح، ولقد كانت العدمية هي الأيديولوجية السياسية لحزب روسي نشأ عام 1870م، وكان هدفه تحطيم النظام الاجتماعي القائم، دون أن يكون في نيته إحلال أي نظام آخر محله... وقد اشتهرت فلسفة العدمية بربطها بهذا الحزب. وكثيرون يتبرمون من واقع معين، ويسعون في تدميره، ولا يعنيهم أن يكون البديل عنه هو الفوضى... وعلى حد قول القائل: عليّ وعلى أعدائي...
أو قول الشاعر العربي:


رُبّ يومٍ بكيت منه فلما
صِرْتُ في غيره بكيت عليهِ

كثيرون يعتبرون مجرد انتحالهم لاسم الإسلام كافياً لتحقيق أمانيِّهِم، ولاشيء وراء ذلك.
إنك تعجب حقاً، هذا الدين الذي حملت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل، وربطت كل أسباب التوفيق والسعادة به، ونزعت عن تاركيه كل صفات الخيرية..
ثم يطول الأمل، وتقسو القلوب، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يذكره، ويؤكد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعني شيئاً، ولا يغني شيئاً.
هل مجرد ادعاء الإنسان انه عاقل -مثلاً - أو غني، أو قوي، أو صحيح البنية، أو عالم أو سعيد، أو.. أو.. يجعله كذلك؟ أو يغير من واقعه شيئاً؟ إن مجرد الأمانيّ العابرة، والأحلام الطائرة، لا تنفع ولا تدفع، إذا لم تكن زاداً ووقوداً لفعل الأسباب الشرعية والطبعية، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام.
فدعوى (الإسلام)، أو (السنّة)، أو(الحديث)، أو (السَّلفية)، أو (الاتِّباع).... معيارها صدق التمثل والعمل، والالتزام الحقيقي ظاهراً وباطناً.
وهنا لا بدّ من التفطن لثلاثة أمور:
أولها: إن هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم، ورفع الشعار، ثم ينامون قريري العيون.
ثانيها: إن هناك من يطبق فهماً منقوصاً سبق إلى ذهنه، وظنه هو الحق، فهناك من يرى الإسلام عبادة فحسب، أو زهداً فحسب، أو قتالاً فحسب، أو ما شاء له تصوره... ويتمسك بهذا، معرضاً عما سواه، وقد يرى الإسلام مظهراً وشكلاً مجرداً دون مضمون حقيقي.
ثالثها: إن هناك من يفهم الأمر على حقيقته، لكنه لا يعمل به، وها هنا؛ لا مشكلة في الفهم والإدراك، لكن المشكلة في التنفيذ.
إن هناك أسماءً صحيحة، وعناوين مقبولة، لكنَّ مجرد التَّسَمِّي بها لايفيد حتى يُضاف إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق. وكثيراً ما يستمسك الناس بالاسم، بل ويتعصبون له، ويغضبون ممن ينفيه عنهم، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة.
(123) وّمّن يّعًمّلً مٌنّ پصَّالٌحّاتٌ مٌن ذّكّرُ أّوً أٍنثّى" وّهٍوّ مٍؤًمٌنِ فّأٍوًلّئٌكّ يّدًخٍلٍونّ پًجّنَّةّ وّلا يٍظًلّمٍونّ نّقٌيرْا (124)}. النص واضح وصريح، الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها، حتى يقترن بها العمل، الميزان مرتبط ب {مّن يّعًمّلً...} أو {مّن يّعًمّلً...} ولهذا كان بعض السلف يقولون: إن هذه أخوف آية في كتاب الله -تعالى-.
يقول الحافظ ابن كثير: «والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، وليس كلُّ من ادعى شيئاً، حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان» (1/557) وكلمة الحسن البصري -رحمه الله- مشهورة، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق.
ثم؛ هذه الأسماء التي يدعيها المدعون، ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزين:
الصنف الأول: أسماء وانتسابات مشروعة مطلقاً، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع، والاعتراف به، وإعلانه، وذلك مثل قول المسلم: أنا المسلم، والحمد لله. فهذا انتساب محمود بكل حال، وانتماء شريف عظيم، وواجب على قائله تأييد قوله بفعله.
الصنف الثاني: أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقاً، ولا ادعاء تحصيلها، مما يوهم كمال الإنسان، واستيلاءه على الذروة العليا، ومنها لفظ الإيمان، فلا يحسن بالمرء أن يقول: أنا مؤمن، على سبيل التزكية، والثناء على النفس، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله -: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فقد جئنا بالقول، ونخشى ان نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله -تعالى-. وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة (الإيمان 90) وأبو عبيد (الإيمان 17) أنه قال: من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة.
وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال: أنا مؤمن -إن شاء الله - ومؤمن أرجو، لأنه لايدري كيف أداؤه للأعمال، على ما افتُرضَ عليه أم لا. وانظر بقية الروايات عن أحمد في المسائل والرسائل بتنسيق وتحقيق: عبدالإله الأحمدي (1/117-125).
وذلك أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك ما نهى الله عنه كله، فإذا قال: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع الأوامر، وترك جميع النواهي، فهو من أولياء الله، وهو من أهل الجنة، كما قال ابن مسعود (وانظر: فتاوى ابن تيمية 7/446). إذاً فترجيح الاستثناء، كان يقول: أنا مؤمن -إن شاء الله-، أو أرجو انني مؤمن، هو من باب نفي التزكية عن النفس، وعدم دعوى الإيمان المطلق، ولهذا لا يحسن بأحد أن يقول: أنا مؤمن حقاً، أو قطعاً، أو البتة، أو عند الله.. لما يشعر ذلك به من دعوى الكمال، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال، هذا مع ان لفظ الإيمان لفظ شرعي، وقد جاء في القرآن الكريم: {قٍولٍوا آمّنَّا} {رّبَّنّا آمّنَّا} {إنٌَي آمّنًتٍ بٌرّبٌَكٍمً} الخ، فما بالك بالألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في نص كتاب أو سنّة، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة، كلفظة (أنا سلفي) - على سبيل التمثيل- أليست أولى بالتقييد والضبط؟ أليست السلفية قولاً وفعلاً؟ أليست منهجاً وسلوكاً؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السَّلف من المعاني، والأعمال، والأقوال، والأحوال؟ أم أضمن إذ فهمتها أنني تمثلتها في واقع حياتي، حتى حق لي ان انتحل النسبة الشريفة هذه؟أما حين تكون المسألة بيان حال، أو تقرير واقع في جانب معين، فالأمر يختلف، كأن يقول: أنا على طريقة السلف في الإيمان، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات أو على طريقتهم في الاعتقاد.. فهذا لا بأس به عندي، والله أعلم.
والخلاصة أن المؤمنين يجب أن يُراعوا أهمية العمل والتحقيق، وليس مجرد الانتساب والدعوى.
فمتى يعي المسلمون هذا؟ ومتى يعي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخر بالنسبة لا يجدي شيئاً، حتى يقترن بالعمل؟ وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود، يصدق أو لا يصدق، بل بالتحلي بنقاء السريرة، وصفاء السيرة، وصلاح العمل، وتدارك العيب، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة، وكمال الصدق مع الله.
{قّالّ پلَّهٍ هّذّا يّوًمٍ يّنفّعٍ پصَّادٌقٌينّ صٌدًقٍهٍمً لّهٍمً جّنَّاتِ تّجًرٌي مٌن تّحًتٌهّا الأّّنًهّارٍ خّالٌدٌينّ فٌيهّا أّّبّدْا رَّضٌيّ پلَّهٍ عّنًهٍمً وّرّضٍوا عّنًهٍ ذّلٌكّ پًفّوًزٍ پًعّظٌيمٍ} .

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved