Thursday 11th July,200210878العددالخميس 1 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

تساؤلات تساؤلات
محمود درويش..!
منصور الجهني

(محمود درويش) لم يكن يوما مرتهناً لتداعيات اللحظة، لم يكن صوته في أي وقت.. صدى لضجيج عابر أو فرقعات آنية، حتى وان تعلق الأمر بدوي المدافع وانفجارات القذائف.. التي كانت ذات حصار تترصد مدار أنفاسه، ووقع نبضه المضطرب، حتى وان كانت رائحة الموت هي اللغة الوحيدة التي تسيج حدود المكان.. فإنه يظل قادراً على احتواء تراجيديا المشهد ضمن قاموسه الخاص، ضمن فضائه الملحمي، المفتوح على أغنية المستحيل.. حيث كل البلاد مرايا.. وكل المرايا حجر، لم ينجر إلى فضاء المناحات، أو يهرب إلى عتمة الأقبية، لم يغادر طقوسه الأليفة.. كانت رائحة القهوة تشكل ملاذا وحيدا وحميماً، يسند جدار الذاكرة الأخير، المتداعي على حافة النسيان، كانت تحفر مسارب عميقة في عتمة الروح، ينفذ منها دمه المحاصر.. إلى دفء اللحظة الأولى.. إلى حضن الأم، إلى الوردة التي هناك، إلى الحياة.. التي يحبها درويش إذا ما استطاع إليها سبيلا، الحياة التي ظل يحاولها، منذ ان ترك وراءه ملامحها، بينما اسمها يمشي أمامه، الحياة - الوطن -الحلم- الأمل .. الذي راح يربيه بين صقيع المنافي، وحقول الشعر.
** ورغم اقترابه في أحايين كثيرة من دهاليز السياسة بكل صخبها، وشعاراتها المتحولة والمتصارعة.. إلا أن صوته ظل طليقا في فضاءات الإبداع، عصياً على الاحتواء، ظل يطارد غزالاته الهاربة في فضاءات القصيدة، دون الوقوع في أحابيل الممكن، المنصوبة على حدود المتاهة.
لذا ربما يصعب وصف درويش بأنه شاعر المقاومة، أو وصف شعره بذلك، فما يسمى شعر المقاومة رغم أهميته، ودوره الحيوي، إلا انه غالباً ما يمثل ردة فعل آنية، وموقفاً انفعالياً، تجاه فعل محدد، يرتبط بشروط وظروف معينة، وبالتالي فإن ايقاعه يظل خاضعا لمستوى ذلك الفعل صعودا أو هبوطا، دون ان يتجاوز حدود الصوت إلى رؤية عميقة، المقاومة قد تعني في إحدى صيغها صراع الأضداد، يتجلى ذلك على مستوى الواقع، أو حتى على مستوى اللغة التي تبقى مشدودة إلى جدار المعنى الأخير حيث الذات المتحصنة خلف متاريس الهوية.
ربما يحكي بامتياز وصف درويش بأنه شاعر القصيدة.. القضية بكل تجلياتها وتحولاتها، وأبعادها الوجودية والإنسانية فهو لم يدافع منذ البدء عن هوية متحققة وناجزة، لكنه راح يبحث عنها، يعمل على تحقيقها: (أيها المحاصر بين الروح والخنجر أريد ان أرسم شكلك.. كي أجد شكلي فيك).
** من خلال الحفر العميق في الذاكرة.. ذاكرة المكان، الزمان، ذاكرة الحقيقة .. ذلك الحفر جعل الحلم يتخلخل، تحت أقدام الآخر، وهو ما جمع نصا مثل عابرون في كلام عابر، يثير الرعب، ويفتح نافذة التساؤلات.. على صحارى التيه، وهو أيضا لم يكتف بمواجهة السجان من خلال الرفض فقط، إنما من خلال الحوار العميق الذي يعري ذاته المأزومة، ويفضح مقدار الزيف المتخفي خلف فرقعة سياطه.
** درويش.. عازف الجيتار المتجول، الذي يرسل تقاسيمه على سطح الماء، ليحملها في رحلته السرمدية.. من النهر إلى البحر ومن البحر إلى الغيمة إلى التراب، إلى الجذور، إلى شجرة الزيتون.. إلى الوطن.
هذا التحول الواعي والمستمر في رؤية درويش الإبداعية والإنسانية، هو ما جعل بعض المقاطع في ديوانه الأخير - حالة حصار- تبدو صادمة لكثيرين ممن اعتادوا على أحادية الخطاب الشعري.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved