يرى المؤلفان، جيرولد شيكتر وزوجته ليونا اللذان يشكلان معا فريقا من الصحفيين التاريخيين، أن حقبة الحرب الباردة كانت في مجملها مجموعة من «الأسرار المقدسة»، أو قل إنها عمليات استخباراتية على أعلى درجة من الحساسية نفذتها وكالات الاستخبارات في البلدان الكبرى، وعلى الأخص الاتحاد السوفيتي.
ومن فرط أهمية تلك العمليات أنها تطلبت إعادة صياغة التاريخ؛ على اعتبار أن المتفق عليه تاريخيا قد أثبت فشله في إدراك المغزى والهدف من تلك الحملات الاستخباراتية.
ولعل نظرية «الأسرار المقدسة» هي أحدث ما ظهر لإعادة تقييم مردود نشاط التجسس السوفيتي على الماضي الأمريكي، وخصوصا إبان الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ويستند المؤلفان في أطروحاتهما على جملة مؤلفات كتبها الأمريكيون حول نفس الموضوع، نخص بالذكر منها تفسيرات هارفي كلير وجون إيرل في كتابهما «فينونا: كشف الستار عن التجسس السوفيتي في أمريكا»، لكن هذا لم يمنع جيرولد وليونا شيكتر من كشف معلومات جديدة حول مدى اتساع الشبكة الاستخباراتية داخل الولايات المتحدة، وإن صدقت تلك المعلومات، وخاصة فيما يتعلق بحقيقة أمر «جي روبرت أوبنهايمر» الذي اتضح أنه واحد من أهم الأصول الاستخباراتية المزروعة داخل الولايات المتحدة، فهذا لا يعني سوى ضرورة تغيير النظرة التقليدية إزاءالحرب الباردة. وكتاب «الأسرار المقدسة» ليس فقط عرضا تاريخيا اتسم بالدقة والموضوعية حول الأضرار التي ألحقتها الأنشطة التجسسية السوفيتية بالمصالح الأمريكية، ولكنه يتناول أيضا الدور الحيوي لتلك الأنشطة في خدمة المصالح السوفيتية. ورغم الاعتقاد السائد لدى الكثير من الأمريكيين بأن هؤلاء المتورطين في عمليات التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي ليسوا سوى ضحايا الشعارات الوهمية التي أطلقتها الحركة المكارثية؛ فإن حقيقة الأمر أن هؤلاء الجواسيس هم في الأصل جواسيس وحسب، فمن واقع ملفات المخابرات السوفيتية، كان كل من أليجر هيس ولورانسدوجان ولوشلين كيوري وويليام ريمنجتون وآخرين كانوا يعملون في المصالح الحكومية الأمريكية، كانوا جميعهم عملاء أو مصادر معلوماتية في المخابرات السوفيتية كي جي بي، وإلى جانب هذه المعلومات المعروفة لدى قطاع عريض من أجهزة الأمن والإعلام الأمريكيين، يضيف الزوجان شيكتر تفاصيل تنشر لأول مرة حول النجاح الذي حققته شبكة التجسس السوفيتي داخل الولايات المتحدة، ويضعان حدا للمزاعم التي تريد نفي أي تأثير سلبي لاختراق الاتحاد السوفيتي للولايات المتحدة.
ويذكر المؤلفان حادثين على درجة كبيرة من الأهمية، ويوضحان مدى تعمق المؤلفين في ملفات ال كى جي بي، فعقب كشف النقاب عن حادثة فينونا، بات من المعلوم أن هاري ديكستر وايت، مساعد وزير المالية الأمريكي وصاحب خطة «مورجينثاو» التي تتعلق بوضعية ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، واحد من أهم العملاء الأمريكيين الذين يخدمون في صفوف المخابرات السوفيتية، في ذلك الحين، ردد العديد من النقاد وجهة نظر تنفي عن وايت هذه التهمة بحجة أنه واحد من مؤسسي صندوق النقد الدولي، وبالتالي يجوز أن تتعدد علاقاته مع مختلف الأطراف، الأعداء والأصدقاء على حد سواء. في هذا الإطار، تناول المؤلفان بمزيد من التعمق والإمعان تاريخ وايت والجهود التي قام بها قبل الحرب العالمية الثانية، حيث حاول إقناع الولايات المتحدة باتخاذ سياسة التصادم مع اليابانيين، الأمر الذي يتبعه بقاء القوات اليابانية داخل الصين وبالتالي تبتعد عن الحدود السوفيتية بالقرب من سيبيريا، كان الهدف في غاية البساطة، ألا وهو تصعيد حدة التوتر في المفاوضات الجارية بين الأمريكيين واليابانيين، وقبل هذه الأحداث مباشرة، لم يكن وايت عميلا للسوفيت؛ وإنما- كما يطلق عليه المؤلفون في تاريخ الاستخبارات- «نجما» يدور في فلكه مجموعة من الأقمار التي تتولى تجميع المعلومات الحيوية والسرية، ليسلمها بدوره إلى المعسكر السوفيتي.
وبذريعة دعم السلام وروح الصداقة مع السوفيت، تعمد وايت إدخال «الأهداف السوفيتية ضمن المبادرات الخاصة بوزارة الخزانة الأمريكية»، راميا في ذلك إلى كسب المزيد من الدعم ل «السياسة السوفيتية العاملة على إثناء اليابانيين عن غزو سيبيريا»، لم تؤد هذه السياسة إلى السلام، وإنما - وهذا هو مكمن الخطورة- إلى شن اليابانيين لهجماتهم على ميناء بيرل هاربر في الولايات المتحدة وإنزالهم بالأمريكيين واحدة من أسوأ الهزائم في التاريخ الأمريكي.
الحادثة الثانية، ولعلها الأهم، في كتاب «الأسرار المقدسة» تتعلق بروبرت اوبنهايمر، رئيس مشروع مانهاتن وأحد المعارضين لمشروع تطوير القنبلة الهيدروجينية الأمريكية في عقد الخمسينيات، ويقول المؤلفان إن السبب الرئيسي في التشكيك بولاء أوبنهايمر يعزى إلى معارضته لمشروع القنبلة الهيدروجينية، وعلاقاته المشبوهة مع السوفيت، وهي كلها ملابسات أدت في نهاية الأمر إلى حجب رأيه عن آذان صناع السياسة الأمريكية وأعضاء لجنة الطاقة النووية. ويذكر المؤلفان كلمة وردت على لسان أوبناهايمر أثناء الحوار الذي أجري معه عام 1948، وفيها غازل الشيوعية واعتبرها فلسفة إصلاحية تنطلق من اعتبارات إنسانية، حينها قال الرجل: «يبدو الجانب الأعظم مما أعتقده الآن لا معنى له؛ لكنه شكل جزءا أساسيا من تحولي إلى إنسان متكامل»، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأ أوبنهايمر من أشد المعادين للمعسكر الشيوعي؛ لكن اتضح فيما بعد أنه كان ينقل إليهم البيانات السرية دون أدنى اعتبار لولائه أو خدمة أمته، وما يكشف عنه «الأسرار المقدسة» يعد دون شك قنبلة ستنفجر في وجه الجميع لتثير الجدل والاختلاف بين الباحثين والمعلقين. فمن المعروف أن زوجة أوبنهايمر وأخيه، فرانك أوبنهايمر، كانا عضوين في الحزب الشيوعي، وعلى غرار المثقفين الآخرين في تلك الحقبة الحساسة من تاريخ أمريكا، كان أوبنهايمر متعاطفا مع الحركة الشيوعية، غير أن خدمته في صفوف وطنه، وفي واحد من أهم المجالات حساسية، كانت ضرورة فرضتها حاجة الولايات المتحدة إلى تطوير القنبلة الذرية، وعلى الرغم من معرفة الأوساط السياسية بتاريخه السابق مع السوفيت، تم تعيين أوبنهايمر رئيسا لأهم مختبر ذري سري أمريكي تم إنشاؤه في لوس ألموس.
لكن الجديد والخطير في كتاب «الأسرار المقدسة»، محاولة الكاتبان إثبات أن أوبنهايمر ذاته كان عضوا في الحزب الشيوعي حتى عام 1942، وهذا في حد ذاته أقوى دليل على قوة اختراق المخابرات السوفيتية للولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة التي يراها كثير من المعلقين أنها كانت في صالح الأخيرة، إلا أن كتاب «الأسرار المقدسة» يضعنا أمام فرضية جديدة تستحق البحث والدراسة.
المؤلف:Jerrold & Leona Schecter الناشر: Brasseys
|