قبل حوالي عام ونصف فاجأني الشيخ سليمان العليان بطلب غريب.. قال لي: يا أبا فارس.. إن الاعمار بيد الله، ولا ادري متى يحين اجلي.. فإذا حلََّ القضاء أريدك ان تكتب رثائي.. وان تقول بما تعرف!!
وها انا اليوم استجيب لطلب الشيخ.. لا لأنه أراد مني ذلك فحسب.. بل لانها شهادة تستحق ان تعرف عن سليمان العليان الإنسان.. وسليمان العليان الأسطورة.
بدأت معرفتي بالشيخ سليمان العليان قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً.. حين كنت مديراً عاماً لشركة تمتلك مجموعة العليان حصة فيها ويشترك الشيخ سليمان في مجلس ادارتها.. كانت الخلافات تدور بين بعض اعضاء مجلس الادارة حول المناصب القيادية في المجلس.. ولحسم الخلاف بين الشركاء توجه الجميع الى الشيخ سليمان برجاء ان يتولى رئاسة المجلس.. فقال لهم: إن كان لديكم من بين المناصب منصب لبواب مجلس الادارة فدعوه لي.. اما الرئاسة فهي لكم!
هذه القصة تمثل عدداً من جوانب سيرة سليمان العليان.. منها انه كان دائماً زاهداً في المناصب والالقاب والاضواء.. ومنها انه كان كثيراً ما يكون حكماً مقبولاً من كل الاطراف.. ومنها انه كان دائماً مصدراً للحكمة والوفاق.. وصوتاً للحق لا يعرف المجاملة او المراوغة، ولعل المتتبع لسيرة الشيخ العليان يشهد امثلة كثيرة متعددة من سيرته لهذه الصفات وغيرها.
كان الشيخ سليمان العليان رجلاً اسطورياً بكل المقاييس.. فلقد كان اسطورياً بحجم ما حققه من انجاز يتمثل اليوم في مجموعة العليان التي تمارس نشاطها التجاري والصناعي والاستثماري في قارات الكون وتعتبر انموذجاً فريداً للنجاح المالي والاداري لا على الصعيد المحلي فحسب، بل وعلى الصعيد العالمي.
ولقد كان الشيخ سليمان العليان رجلاً أسطورياً حين حقق كل هذا النجاح دون ان يكون وريث مال او جاه، بل ودون ان يكون لديه رأسمال يؤسس به أولى شركاته قبل اكثر من خمسين عاماً سوى العزيمة والارادة والعمل.. ثم العمل.. ثم العمل، ولعل القليل هم الذين يعرفون ان اول مشاريع سليمان العليان كان عقداً التزم بموجبه بنقل انابيب التابلاين ووضعها على مسار الطريق الذي حدد لها بين المنطقة الشرقية ولبنان.. وهو طريق ساره سليمان العليان مشياً على الاقدام اثناء فترة تنفيذ العقد.
ولقد كان الشيخ سليمان العليان أسطورياً عندما وضع قواعد مدرسة ادارية التزمت بها شركات مجموعة في داخل المملكة وخارجها، مدرسة لها سمات مميزة ومحددة منها الشفافية، والمصداقية، والنزاهة، والدقة، والاتصال الشبكي، والمحاسبية، ووفرة المعلومات، وغزارة التحري، واللقاءات الشخصية، والبساطة، والبعد عن المظاهر، وبناء التوافق والعمل الهادئ البعيد عن الاضواء، والتأني، والنفس الطويل، واللامركزية، وكل هذه السمات كانت انعكاساً لشخصية سليمان العليان ولم تكن نتاج بحوث لمستشارين، او نصائح لمديرين تنفيذيين محترفين، وتأتي استمرارية مجموعة العليان بعد سنوات من انحسار دور الشيخ سليمان العليان في ادارتها وتسيير امورها دليلاً ساطعاً على انه قد انشأ مؤسسة ذات كيان قوي راسخ، تتأثر بالافراد ولكنها لا تعتمد على احد منهم حتى ولو كان الباني المؤسس نفسه، وتلك هي بحق قمة النجاح في العمل المؤسسي.
ومرة اخرى يتضح حجم الاسطورة اذا عرفنا ان سليمان العليان قد وضع قواعد هذه المدرسة دون ان يكون قد حظي بشئ من العلم الاكاديمي او الشهادات العليا! وانني افتخر بان من اهم ما احمله من شهادات هو انني خريج مدرسة العليان للاعمال!!
ولقد كان الشيخ سليمان العليان اسطورياً بقدراته الشخصية الفذة.. فذاكرته التسجيلية القوية كانت تعينه على استرجاع ادق التفاصيل مهما بعد الزمن عنها.. وتساعده على مقارنة اقوال المديرين العاملين معه للتأكد من صحة المعلومات وكفاءة الاتصال الشبكي بينهم، وتمكنه من استيعاب اعقد الارقام والمفاهيم الاقتصادية والمالية والربط بينها وتحليلها بشكل يجعل من كبار المحللين الماليين يقفون امامه كالتلامذة امام مدرسهم لا خوفاً من سلطانه عليهم، ولكن احتراماً لقدراته الذهنية، وغيره على كفاءتهم المهنية!
وكان نطاق اهتمامه العريض يمكنه من البحث تارة حول مسار خطوط التوزيع لسيارات النقل في احدى الشركات، والانتقال بعدئذ وخلال لحظات الى مناقشة تفاصيل صفقة بمئات الملايين في احدى بقاع الارض، دون ان يشغله ذلك عن تلك او تطغى إحداهما على الاخرى، ودون ان يمارس مركزية في القرار وانما كان يرسخ مبادئ المحاسبية وغزارة التحري والشفافية.
وكان الشيخ سليمان العليان أسطورياً في حبه للعمل وانضباطه فيه وجلده عليه.. كان يهرب من الاجازات هرباً.. اذا حل موسم الاجازات في المملكة سافر الى احد مكاتبه في اثينا او لندن او نيويورك، واذا حلت اجازة رأس السنة الميلادية في الخارج عاد حثيثاً الى الرياض، وكان يختار لسفره ايام الاجازة الاسبوعية حتى لا يفوته يوم عمل في الرياض او لندن.
يروى ان صحفياً سأل الشيخ سليمان في احدى المقابلات الصحفية النادرة التي اجريت معه عما اذا كان يمتع باجازة سنوية، فاجاب الشيخ بسؤال الصحفي..
هل تفعل انت.؟! قال الصحفي نعم..فقال الشيخ وماذا تعمل في الاجازة؟! قال الصحفي اسبح في البحرواستلقي على الشاطئ واتنزه في المساء.. قال الشيخ ولماذا تفعل ذلك؟ قال الصحفي لانني استمتع به.. قال الشيخ انا اذاً اتمتع باجازة اثني عشر شهراً في العالم. .لانني استمتع بالعمل!! ولذلك لم يكن يعرف المديرون في مجموعة العليان معنى للخصوصية في الاجازة او الابتعاد عن المكتب، فالمكتب كان دائماً معهم حيثما وجدوا ومكالمات الشيخ سليمان تلاحقهم اينما ذهبوا.
اما سليمان العليان الانسان.. فهي سيرة ظلَّمها الشيخ بعزوفه عن الاضواء.. فعند ما كان الشيخ سليمان العليان يواجه بما يقال عنه من انه متهم بالحرص المفرط كان يجيب بابتسامة واثقة ساخرة قائلاً: هذه ليست تهمة، بل وسام.. فاذا قيل له كيف، قال: ان الناس يأتمنونني على اموالهم.. شركائي حين يسلمونني الادارة يأتمونني على اموالهم.. المواطنون الذين يشترون بضاعتنا يأتمونني على اموالهم لانهم لا يريدون ان يدفعوا ثمن البذخ والاسراف، والمودعون الذين يضعون اموالهم في مصرف اشترك في ادارته يأتمونني على اموالهم ان احافظ عليها من العبث أو الضياع، والموظفون العاملون معي يأتمنوني على نجاح شركائهم واستمرارية مصدر رزقهم.. فإذا قيل عني أني شديد الحرص أفلا يكون ذلك وساماً؟ قلنا ولكن ماذا عن أموالك أنت؟ فيقول لا يهمني أن يعرف أحد إلا الله ما أفعل بمالي وفيم أنفقه.. قلنا ولكن الصورة الذهنية للمؤسسة لدى الجمهور أمر مهم في علوم الإدارة الحديثة.. وهنا يطرق الشيخ صامتاً.. فهو يحترم الرأي المخالف ويعرف منطقه، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى طبيعته الهادئة البعيدة عن الأضواء.
لقد كان الشيخ سليمان العليان إنساناً في حبه للخير وكريماً في الإنفاق عليه.. وكانت له في ذلك فلسفة سار عليها وجعلها منهجاً لمؤسسته وأعماله، ترتكز على عدد من العناصر منها:
1- الفصل بين قرار المنح والمانح، فأسس بذلك مؤسسة سليمان العليان الخيرية وجعل عليها من يثق في نظرتهم وفوضهم صلاحية البت في توزيع المعونات والشركات في حدود ما خصص لهم من ميزانية دون الرجوع إليه، ففصل بذلك بين المنح والمانع، وتجنب مظاهر السؤال والاستجابة التي صبغت أنماطاً أخرى من العمل الخيري.
2- ترجيح منح القليل إلى الكثير على منح الكثير إلى القليل، فلقد كان الشيخ يفضل أن يمنح ألف ريال لألف شخص على أن يمنح شخصا ما أو قضية ما مليون ريال.
3- اختيار الأهداف الخيرية ذات المغزى والمضمون وتلك التي تشكل إضافة جديدة إلى المجتمع، ولذلك كان اهتمامه الخاص بجمعية الأطفال المعاقين وبالقضايا الصحية والتعليمية والاجتماعية.
4- الابتعاد الكامل عن الأضواء كلما أمكن ذلك.
وضمن هذه المبادئ كانت للشيخ سليمان العليان إسهامات كبرى بأي مقياس ظلمها الشيخ بالصمت والهدوء والعزوف عن الرد على من وجه إليه سهام النقد في هذا المجال.
وكان الشيخ سليمان العليان إنساناً في تعامله مع العاملين معه من مختلف الدرجات الوظيفية.. كان يحبهم حباً أبوياً ويحترم ذكاءهم ويتحدى قدراتهم تماماً كما يفعل الأب الذي يطلب من ابن له أن ينشد نشيداً أو يظهر موهبة.
وكان الشيخ سليمان إنساناً في حرصه على معرفة تفاصيل أوضاعهم الأسرية ومتابعته لأحوالهم وأبنائهم وعطفه عليهم وتعامله معهم تعاملاً يخجلهم ويأسر أفئدتهم ويستحوذ على ولائهم.
لقد طلب مني الشيخ سليمان العليان أن أكتب بما أعرف.. ولقد كتبت نزراً يسيراً مما أعرف فسيرته لا تغطيها كلمات أو صفحات، ولعل الوقت يحين يوماً للكتابة عن جوانب سيرته فصلا فصلاً، فلقد كانت حياته بحرا عريضا من العبر والدروس، وأن من حق الأجيال علينا أن ننقل إليها شيئا مما عرفنا منها.
لقد قلت يوما إنني لا أحترم هذا الرجل فحسب، ولا أكن له المودة فحسب، ولا أعتز به وبمعرفته فحسب. بل أحبه حباً عميقاً صادقاً.. ويوم الجمعة الماضي قلت لأخي خالد سليمان العليان واخوانه.. لقد فقدت والدي قبل أقل من عامين وترك فقدانه في فؤادي جرحا عميقا غائرا لم يلتئم.. واليوم أشعر بجرحي يزداد عمقاً، وبفؤادي يتفطر ألماً.. ومع أن الموت هو نهاية كل حي، وأن رحيل الشيخ سليمان قد بات منتظرا منذ أيام وأسابيع خلت، إلا أن اتصال أخي خالد بي بعد دقائق من رحيل الشيخ في ليلة الجمعة الماضية كان له وقع الصدمة التي لم يهون منها إلا ثبات خالد وإيمانه وصبره واحتسابه.
نم قريراً أيها الشيخ
نم هانئاً بما أنجزت لنفسك وأسرتك ووطنك وإنسانيتك.
نم مبتسماً لكل نجاح يحققه أبناؤك من بعدك.
نم سعيداً بما سينصفك به التاريخ من سجل حافل وسيرة عطرة.
وقبل كل ذلك وبعده.. نم راضيا بلقاء وجه ربك الكريم الذي سيسألك عن بدنك فيم استعملته، ومالك فيم أنفقته، وعمرك فيم أفنيته، وستجيب بإذن الله عن كل واحدة منها إجابة يرضى عنها ربك الغفور الرحيم.
رحمك الله يا شيخ سليمان وأسكنك فسيح جناته وألهمنا الله من بعدك الصبر والسلوان.. و {إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ}.
|