يرصد لنا دارسو الأدب العربي الحديث فيما يرصدون من شؤونه العديدة شأناً بالغ الأهمية يتمثل في اتصال هذا الادب بالتجارب العالمية والاوربية على وجه الخصوص. ويقف هؤلاء الدارسون عند مظاهر ومسارات تأثر الادباء العرب في المشرق والمغرب بالمدارس الادبية الغربية عبر عديد من وسائل الاتصال (البعثات، الرحلات، الترجمة.. .الخ)، ويبدو أنه قد استقر كحقيقة ثابتة أن الرواية العربية مدينة في نشأتها- إن لم يكن في تطورها- للرواية الاوربية وإن كان هذا الحكم المطلق لا يخلو من افتئات على بعض الحقائق في مجال وجود بذور للرواية في التراث العربي فقد عرف العرب فن القص منذ وقت مبكر وقبل أن تظهر الرواية بمعناها الحديث في اوربا بقرون عديدة. وليس خافياً ولا مجهولاً أمر توفر خصوبة الخيال القصصي في السير الشعبية العربية والتي يرى بعض الباحثين أنها تستمد مادتها وخطوطها الاساسية من (أيام العرب القديمة). واذا كان هذا هو شأن الرواية فإن الامر يختلف بالنسبة للشعر فهو ديوان العرب وفنهم الأول على امتداد العصور بحيث لا يجوز لقائل أن يرد نشأته إلى مصدر خارج حدود الجزيرة العربية. وإن كانت هناك نبرة تزداد ارتفاعاً في السنوات الاخيرة حول نهاية زمن الشعر وسيادة زمن الرواية، وهي قضية تقلق الشعراء ويثور حولها الخلاف بين الباحثين انفسهم وما أراه هو أن الشعر كفن عربي اصيل ومتطور يظل فناً لكل زمن عربي قادم كما كان فناً لكل زمن عربي مضى فاضاف حلقة إلى سلسلة التراث الادبي العربي تزيده خصوبة وتنظم مراحله المتتالية في سلك التاريخ الادبي والحضاري لامتنا وليس ادل على ما أراه من أن الشعر العربي استطاع على مر الازمنة أن يتجاوز عصور اضمحلاله وضعفه التي ادت إليها عوامل عديدة في مقدمتها عصور اغتراب اللغة والثقافة العربية بحكم سيطرة قوى احتلال جعلت من هذه اللغة وما ينتجه اصحابها العرب من ثقافة عدوها الاول.
وحسبنا في مجال الحقائق التاريخية أن تكون قرون الحكم المملوكي ثم الاحتلال العثماني للخريطة العربية هو المثال الأكبر على ضعف الشعر واضمحلاله وانكباب الشعراء على التقليد الركيك قبل أن تنشأ حركة التجديد مرتبطة بكفاح هذه الامة ونزوعها إلى التحرر من الاستعمار الاوروبي الذي اطاح بدولة الخلافة وورثها. .نعم لقد استطاع الشعر أن يتجاوز مثل هذه العصور متخذاً أسباب التطور وان تطرفت بعض روافدها واثارت ما تثيره الطفرات التي تلوح مفاجئة وتبدو متمردة على السياق العام لحركة التطور الهادئ والطبيعي. بدأت بواكير الشعر العربي الحديث في عقد الاربعينيات على يد نازك الملائكة وغيرها من شعراء التفعيلة أو ما عرف بالشعر الحر. وواجهت هذه الحركة التجديدية هجوماً عنيفاً من انصار الشعر العمودي الذي يلتزم الوزن والقافية. وحاول البعض رد هذا التطور الطبيعي للشعر إلى مصادر غربية وقد امتلأ ميدان هذه المعركة وقتها بدروب عديدة من التأويلات والتفسيرات السلبية التي تتجاوز حدود النظرة الموضوعية إلى تخوم الاتهام بالعمالة وما تزال هناك اصوات وان تكن خافتة تواصل هذه المعركة بعد أن انتهت وسكن غبارها الذي كان كثيفاً. وقد غاب عن كثيرين ما لفت إليه بعض النقاد والشعراء الانتباه إلى أن حركة التجديد في الشعر العربي لم تتوقف حتى داخل الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، فقد تحررت القصيدة المحافظة على الوزن والقافية من تقاليد القصيدة العمودية متعددة الاغراض منتقلة إلى القصيدة ذات الوحدة العضوية. وعندما ظهرت القصيدة المسماة بقصيدة التدوير رأى البعض أنها قفزة كبرى في مجال تطور القصيدة الحديثة ولكنهم فوجئوا أن في التراث العربي الذي يرجع إلى قرون عدة ما يعرف بنصوص (البند) وهي نموذج فريد لقصيدة التدوير التي لمعت في السبعينيات من هذا القرن (العشرين). عموماً فقد استقرت حقيقة الشعر الحديث وسادت المشهد الابداعي سيادة شبه مطلقة، ولحقت بقصيدة الشعر الحر تطورات عديدة حتى اصبح هنا تمييز واضح بين مراحل تطور هذه القصيدة، بل يمكن وصف بعض مراحل هذه القصيدة بالكلاسيكية، فقد اتخذت القصيدة الحديثة مناحي عدة وطرقاً متعددة في التشكيل الفني، وغلبت على بعض المدارس الشعرية في اقطار عربية مختلفة نزعة الغموض الذي اقام حاجزاً بين الشاعر وجمهور المتلقين واصبح تغليب الغاية التشكيلية على غاية التواصل مع الجمهور مميزاً لبعض الاتجاهات الشعرية التي تشغل حيزاً من المشهد الشعري العربي العام. وظهرت في الافق مصطلحات الحداثة والحساسية الجديدة وما بعد الحداثة وغيرها في سباق محموم- احياناً- مع حركة التطور اللاهث وثورة الاتصالات الحديثة، ولا يكاد يمر يوم دون أن يثور النقاش حاداً حول قضايا الشعر ومنعطفاته واصبح ادونيس واتجاهه الشعري ومن خرج من عباءته من الشعراء العرب مادة مطردة للكر والفر إن صح التعبير.
وفي حمى هذا العراك وهو في جانب حيوي وحضاري- برز إلى السطح اتجاه يدور حوله النقاش يكاد يكون يومياً في المجلات والصفحات وهو اتجاه قصيدة النثر والذي يرى اصحابه أن حقهم في تشكيل نصوصهم بعيداً عن الايقاع المتوازن للقصيدة العربية هو حق مشروع ويرون أن لقصيدتهم ايقاعها الخاص. وقد تعرض هذا الاتجاه لهجوم عنيف من كل الاتجاهات بما فيها شعراء القصيدة الحديثة التي واجهت عند ظهورها الهجوم العنيف ذاته وبلغ الهجوم على قصيدة النثر مداه في مقولة بعضهم أن هذه النصوص ليست شعراً وأن على هؤلاء الشعراء أن يسموا نصوصهم أي اسم آخر غير اسم (قصيدة) ولعلهم محقون في هذا إذ يبدو من غير المنطقي أن تقول مثلاً (شعر النثر) ويتواضع بعض الناقمين على هذه القصيدة في الافصاح عن موقفهم عندما يقولون نحن لا نصادر على حق المبدعين ولكننا لا نحب هذه النصوص ولا نتواصل معها. وبينما يرى شعراء قصيدة النثر أن عدم تواصل هؤلاء الشعراء والنقدا مع قصيدتهم إنما هو راجع إلى طبيعة ذاتهم التقليدية التي تربت على نوع خاص من الشعر، وفي رأيهم كذلك أن ذلك يمثل مجرد مشكل مرحلي كأنهم بذلك يرون أن قصيدتهم هي مرحلة جديدة في تطور القصيدة العربية وأن المستقبل لقصيدتهم.
وإن كانت الاجابة عن سؤال (من أين؟) هي أن المصدر الاوروبي لقصيدة النثر قد اصبح امراً واضحاً وهو أمر لا ينبغي النظر إليه نظرة اتهام فإن السؤال المهم هو (إلى أين ؟) وإذا كان اصحاب هذه القصيدة ينطوي توجههم على رغبة في تحقيق قطيعة مع التراث العربي هنا يكون مكمن الخطر ومن هنا يمكن القول أنه لا مستقبل لقصيدة النثر.
|