* حوار: سعيد الدحية الزهراني
القاص والروائي أحمد سعيد الدويحي أحد قاماتنا الأدبية والثقافية المعروفة أثرى مشهدنا الأدبي بالعديد من الأعمال القصصية والروائية.
لن أسهب في التعريف بمكانته الأدبية فهو أمسى من أن أخط أنا الكلمات التعريفية به، التقيته وطرحت عليه أسئلة ومحاور هذا الحوار. وكاد ألا يجيب عليها لولا محبته لي وثقته بمصداقيتي على حد قوله، فهو تمنى لو جاءت تلك الأسئلة حاملة شيئاً من الخصوصية والتفصل. لكني ومن خلال تصوري لقامته الأدبية الرفيعة تعمدت أن أسمع شهادته فيما هو أعم وأعظم من الخصوصية.
وإليكم شهادات «الدوحي» التي اتسمت بسمته الميزية وهي الصراحة والصراحة فقط:
* الأندية الأدبية ماذا لديك عن هذه المؤسسة الثقافية..؟
لست في مجال إصدار كشف حساب بنشاط الأندية، لم يطلبه أحد مني، والمسألة تتجاوز مبادرة دعوة شاعر، للاستمتاع بقصيدة كثف فيها اللغة، وقراءة نص قصصي له فضاء مدهش وطباعة كتاب نقدي بشكل أو آخر، دون أن يتقدم النادي ذاته إلى الدور الذي يجب أن يقوم به ويفتح حواراً حقيقياً غير جاهز، يستطيع فيه استيعاب كافة الأصوات وأوجه تلك التحولات، كوعاء حضاري ونافذة ثقافية حقيقة، لسبب بسيط جدا، وهو أن الذين يديرون دفة أنشطة الأندية الأدبية ولو تغيرت الأسماء، هم بعقليات «موظفين» مخلصين لبقائهم في تلك المباني الجميلة، وقد تحولت إلى مجرد «تكايا»، لا يريدون تركها من عشرات السنين.
وقد قلت أكثر من مرة، بأني لست سعيدا بهذا السؤال، للإفاضة حول واقع الأندية الأدبية، ليس لعدم الرغبة في الانفعال بهذه الأسئلة والتفعيل بها، لأنها مكررة تناولتها أنا وغيري كثيرا، ولم يبق أحد لم يدل بدلوه في هذا الشأن، وصلت بعضها حد المطالبة بوزارة ثقافة تجمع ذلك الشتات، للمؤسسة الثقافية الرسمية في جهاز إداري واحد، يكون للمثقفين دور قيادي ومهم في إدارته، كما يحدث لأنشطة مهن أخرى، مساوية للشأن الثقافي، كالمحاماة والهندسة والنشر، تم تولي القطاع الخاص دفتها، وأحرز على صعيد تنظيمي نقلات تشريعية مهمة، وربما كان نادي جدة الأدبي، هو الاستثناء الوحيد نسبياً، ولن أتحدث عن أندية تغطي كل مدن الوطن، ولن تحل الا بتغيرات جذرية، لا تعنيه في نظري، لا هو ولا غيره سواء كأصوات أو أسماء، وقد قيل من قبل أن الضرب في الميت حرام.
* السنوات الطويلة التي عشتها في واحات الثقافة والأدب ودهاليزها.. ماذا أعطيت لها، وماذا أخذت منها..؟
رحلة الكلمة وتشكلها لا تقاس بعدد السنين، فهي تتشكل في داخل الروح، وتنمو لتجد طريقها في فضاء، يسمح لها أن تتبرعم، وتأخذ استقلاليتها خارج هذا الفضاء، وربما تقصف في المهد. أنا وجدت أني كنت أصغي في طفولتي، لما أسميه الآن أصوات الذاكرة، شعرية كانت أو حكائية، وفي أصوات مصبوغة بلغة الحياة، بما فيها من الألم والفرح والشقاء والطموح، هي حياة كانت بسيطة وعفوية، وصادقة وحرة على كل حال، كل صوت فيها، يمثل لي الآن فضاء ونموذجاً، أعود إليه بخيالي دائما، حينما تصطك الجدران العالية في وجهي ولا أرى غير الفضاءات الرحبة في طفولتي.
انتزعت من ذلك الفضاء مبكراً، كما نزعت مني طفولتي، وغرست في فضاء آخر، إذ غادرت في سن مبكرة قريتي، وكانت القراءة المكثفة، هي التعريض الحقيقي لما فقدته في تلك المرحلة، كنت اقرأ شيئاً، لأني محروم من الشارع الذي فقدته في مسارب وأودية قريتي، وليس لي حيلة غير السفر بذاكرتي وخيالي.
عرفت مدناً وشوارع وشخوصاً ومفردات جديدة، شكلت لي فضاء آخر، وتطبعت بصفات وتقاليد جديدة، وهي بلا شك تراكم لست أدري، ما إذا كانت القراءة والحياة الجديدة، قد غيرت كثيرا من ذلك التكوين، أم لا..؟.
نعم هي رحلة طويلة نسبياً، عبر زمن يمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً، تعايشت مع وجوه كثيرة فيها الصادق والوفي والقبيح والكاذب، نماذج كثيرة مليئة بها الحياة، تجدها في المشهد الثقافي وخارجه.
* تلك البيئة الأولى مسقط رأسك، كأنها قد وسمتك بأرضها وسمائها وصدقها وجبروتها وشقاوتها، ماذا بقي منها في ذاكرتك..؟.
لا شك أن البيئة الأولى، لها دور مهم في تشكل تكوين الإنسان، فإذا كانت قد شكلت الحجر والشجر، فما بالك بالإنسان الذي يتعاطى مع محسوسات الناس، مع أساليب حياة وعادات غزيرة في الفرح والترح معاً، في النصوص الكتابية الأول، وبالذات «البديل» و«وريحانة» وربما إلى حد ما «قالت فجرُها»، قد تجد شيئاً من ملامح تلك الحياة، والواقع بأن القرية الجنوبية ثرية جدا، بالنسبة للكاتب المبدع بشكل هائل، ولعلك تذكر أن الأصدقاء، «علي الدميني وعبدالعزيز مشري ومحمد علوان وأحمد أبو دهمان حسن النعمي»، قد طرزوا نصوصهم في فضاء تلك القرى، ونهلوا من طقوسها وعالمها الثري، مع اختلاف طريقة وحساسية كل منهم، الكتابية ومذاهبهم الفنية المختلفة طبعاً، عبدالعزيز مثلا جسد عالم القرية بكل ما تعني الكلمة، كان «رحمه الله» يعني بالتحولات، ويملك حساسية خاصة تجاه تلك المتغيرات، ولذلك غاص بذاكرته في كل ما هو فلكلوري في الصورة، لكنه في الواقع كان يستبطن المتغير داخل الإنسان ذاته، وشخصياً أعتقد أن ما كتبه هذا المبدع الكبير، يظل وثيقة تاريخية للأجيال المقبلة، ليس على صعيد إبداعي، بل للدارسين وخصوصاً لعالم الاجتماع والتاريخي.
باختصار هناك مواسم، للفرح والمأتم والبناء والحرث والرعي والمطر، وللحياة إيقاعها الخاص، المتمثل في علاقات الناس ببعضها، واللقاءات المفتوحة بينهم، أصبحت مهددة بالانقراض في الوقت الراهن، لأن الناس غيرتها بحياة مدنية، ألغت بعض تلك الصور النادرة الجميلة..!.
* الصراحة والمصداقية وعدم المداهنة، سمتك المميزة والفارقة، ماذا أعطتك وماذا أخذت منك تلك الخاصية، في منتديات النخب والصفوة الثقافية..؟
سؤال كنت أود ألا أجيب عليه.. فهناك مقولة مفادها «قل كلمتك وأمض..» وفي ذات الوقت هناك مقولة مفادها «كم من كلمة قالت لصاحبها دعني»، ومن يتعامل مع الكلمة، ويعرف تأثيرها ووقعها في النفس، فلا بد أن يكون متروياً، لأن الكلمة كالرصاصة، إذا خرجت لن تعود، وأنا رجل طيب القلب، وأحب الحوار الواضح والصريح، وأعفني لأني لا أريد أن أتحدث عن نفسي..!.
* وهل لديك طقوس في الكتابة..؟.
- طقوس، بمعنى أن لا بد من توفر أشياء معينة، من أقلام وأوراق ومشروبات، وربما يدخل في هذا الشأن المكان والزمان، فأنا أسمع من بعض الأصدقاء عن أشياء غير معقولة، بعضهم يقول إن الكتابة، هي التي تختار اللحظة التي يكتب فيها، وهناك شيء مهم بالنسبة لي ككاتب سردي، فالكتابة همٌّ وتراكم طويل، وانهيارات في ذات اللحظة، وقد تعلمت على المدى البعيد، أن أختار ما يعنيني كتابته ضمن سياقي الكتابي، أي ما يضيف شيئا على النص الذي أكتبه، ويحدث أن يتراءى لي مشهد سردي في غير أوان الكتابة، فعادتي أن أكتب في أوقات محددة، كنت أكتب قصصاً قصيرة في بداية حياتي الأدبية، أكتبها إذا لم أعد احتمل، وربما أضع خطوطاً أولية في أوقات متباعدة، يبدأ بها النص وينتهي بلحظة الكتابة، وربما لا أكملها وتبقى مجرد مشروع كتابة، لأني كنت بحاجة إلى القراءة أكثر من الكتابة، لأن لحظة الكتابة المشحونة تفرض نفسها ولغتها، وأذكر مرة ذات صباح في طريقي إلى مكان عملي، وقفت أمام إشارة وكتبت قصة، وأرجو أن يعذرني الأستاذ الفنان محمد علوان، إذا أبحت لنفسي، أن أفشي عنه هذا السر، فقد زرته ذات مرة في مكتبه، وكان حديثنا حول هذه النقطة، إذا به يخرج معاملة من مكتبه، ويطلعني على مشروع قصة على ذات الورق، كتبها دون أن يشهر بالزمان والمكان..!.
والوجه الآخر للكتابة هو القراءة، فقد كنت أقرأ في ذات اللحظة أكثر من كتاب، ربما رواية وربما دراسة وربما فلسفة، أو أي كتاب آخر مغر، والآن أنا اقرأ ما يتصل بموضوع الكتابة عندي، ربما اقرأ في الأساطير وأشكال الكتابة الحديثة، بمعنى أن اقرأ ما يخدم نصي.
ولا شك أن الكتابة في الوقت الراهن مع وجود الأجهزة المساعدة، قد أحدثت انقلابا لصالح الكاتب، وعادتي أني أحدد وقتاً للكتابة، نهاية الليل أو في الصباح الباكر، قد لا أكتب شيئاً، الدربة الكتابية مهمة، يعرفها من توحد مع الهم الكتابي..!.
* كما أعرف بأن بعض نتاجك الأدبي حبيس أدرجك.. لماذا؟
لولا محبتي لك، وثقتي في صدقك، لاعتذرت عن الإجابة عن بعض أسئلتك،. ليس زهدا ولا لعدم وجاهتك، بل لأن هناك ما هو أهم.
مسألة النشر، قضية منفصلة تماماً، وتتصل بواقع ليس لي فيه حيلة، لا أنا ولا غيري والشق أكبر من الرقعة كما يقال، وأمل أن لا يقودني مثل هذا السؤال إلى العدمية، الكتابة في حد ذاتها مسؤولية بالغة الأهمية، وربما في أسئلتك الأولى وخصوصاً حول الأندية الأدبية، جئنا على جانب من المعضلة التي لا تخصني وحدي، أنا أعرف أن في الساحة كتّاباً كباراً، وهم أهم مني كثيرا، يحفظون في أدرج مكاتبهم نصوصاً روائية مهمة، يترددون في نشرها لأسباب كثيرة، منها ما يتصل بعملية النشر ذاتها، لأنها مكلفة دون أن تنتظر منها عوائد مادية، وهذا الجانب المادي يمس كل أوجه الحياة، بما فيها الوجه الأدبي فهناك مسألة التفرغ، كما في بعض الدول الخليجية المجاورة، فإذا كنا قد قرأنا ولمسنا استنكاراً لبعض الكتابات الروائية، لأنها كتبت من فوق إلى تحت، وللوجاهة الاجتماعية والمادية، فإن الأهم من هذا كله مسألة القبول والتواصل مع المتلقي، فبصراحة شديدة القارئ لدينا، لا زال بعيدا عن القراءة الجادة، قراءة الأدب أيضا وجاهة اجتماعية، وخوفي أن يأتي يوم تصبح فيه الكتابة ذاتها عملية وجاهة، وعلى كل حال يبدو أن سؤالك يفتح لي آفاقاً ويثير في النفس مواجع، ولئلا يتشعب بنا الحديث، أقول هناك كتابات نثرية كثيرة جدا، من قصص ومتابعات نقدية لا تعنيني في الوقت الراهن، بقدر ما أحاول تتمة بقية أجزاء الرواية الأخيرة، «المكتوب مرة أخرى» ومعايشة تفاصيلها، وفي الجزء الثاني بالذات أمضي مع بطلة النص إلى النهاية، وقد وظفت في هذا النص أسطورة «بلقيس»، وهي امرأة سيدة الألغاز في مواجهة النبي سليمان عليه السلام، وأحاول إسقاط الراهن العربي واليومي والتاريخي على هذا النص الذي اعتبره مشروعي الأهم قبل ما أموت، والغريب أنني كتبت أجزاء كثيرة من الجزء الثالث، وكلما قطعت شوطاً تبدت لي أشياء جديدة، اكتشفت منها مثلا من خلال قراءتي، أن اسم أمها بطلتي الجيدة «بلقيس» هو، اسم روايتي الأولى «ريحانة» وكانت امرأة جنية، وهي كتابة عفوية فيها كثير من الغموض الذي يؤذيني، ولا يجعلني أغامر بالنشر في القريب المنتظر..!
* كيف ترى المشهد الثقافي لدينا في نظرك..؟
وأنا بدوري أسألك، ما زلت مصراً على هذه الأسئلة..؟
ما أستطيع أن أقوله لك أن الجيل الجديد، الذي بالتأكيد له حلمه المختلف، قد يحقق شيئا مما عجزنا عن تحقيقه، لأن هناك متغيرات كثيرة، أما ما يقال بأن العالم أصبح قرية كونية صغيرة..!.
وبالنسبة للرواية، أستطيع القول بأن هذا الزمن هو زمن الرواية، هناك عدد هائل من المشاريع الروائية، تمثل انعطافاً مهمّاً في واقع الحركة الثقافية، فالذائقة والتركيبة الثقافية لمجتمعنا هي شعرية أولا وأخيراً، وأنت تعرف أن الشعر الحديث أطل برأسه في بداية السبعينات، ونعرف جميعاً كم واجهت القصيدة الحديثة من هجوم، لأنها حاولت أن تهز وتغير من السائد والجاهز، ولا زال إلى الآن هناك للأسف، من ينسب التباعد والانفصال بين فئات المجتمع والأدب، إلى تلك المرحلة وتلك التجارب المبكرة، ولست أعرف بشكل مباشر سبب تكريس الشعر الشعبي بعد ذلك، وان كنت أعرف بأن مرد ذلك لسببين، أولهما مادي استهلاكي والآخر أدبي، وتستطيع أنت وغيرك التأويل، حول هذه الإشكالية إلى ما لا نهاية، فالرواية نهر جاء ليشق جفاف هذه الصحراء، ولتنمو فيه ست عشرة زهرة في موسم ثقافي واحد، وهذا شيء كبير بالنسبة لنا، وهي أكبر مما هو متوقع لساحة ثقافية لم يكن، يكتب بها أكثر من عدد محدود من الروايات، والسبب واضح جدا، فالرواية تعتمد في كتابتها على انهيارات نفسية وثقافية وأخلاقية وربما سياسية، وهي في ذات الوقت تتكئ في كتابتها على اليومي والتاريخي والسياسي والأسطوري وأصوات الذاكرة والأحلام، وفي الواقع هناك معطيات كثيرة، تساعد في كتابة الرواية وسيكون هناك ردود فعل كثيرة ثقافية وغير ثقافية، ولن يستطيع أحد أن يقف في وجه حركة المجتمع في وجود نوافذ ثقافية متعددة، والشيء الآخر فلا بد أن يصاحب هذه الطفرة الإبداعية حركة نقدية، ربما يكون لها صوتها ولغتها وشكلها المختلف.
* وهل يوجد الآن ما يشير إلى نشء حركة نقدية..؟
أنا قلت أن هناك شيئاً مختلفاً عما ألفته الساحة الثقافية، النقد يأتي تالياً للإبداع مع أن هناك بوادر تبشر بخير، هناك دراسات واهتمام كبير في الجامعات، بمتابعة ما ينشر من روايات وبالذات المرأة، أخطر ما يمكن الخوف منه هو استسهال المسألة، سواء كان ذلك على صعيد إبداعي أو نقدي، مصادمة المجتمع كما حدث للقصيدة الحديثة وهو شيء خطير، فالرواية تستوعب كل الأجناس الأدبية بما فيها الرقص، وربما يمر بالذاكرة رواية رقص «زربا» بصمت، القصة القصيرة وهي أقرب جنس أدبي للرواية من الناحية السردية، استفادت من الغياب النقدي الذي جوبهت به القصيدة الحديثة، ورأينا أن هناك أكثر من مئتي كاتب قصة خلال عقد من الزمن، ويبقى السؤال الأهم: أين هم الآن..؟.
ولذلك سنجد طفرة هائلة، ولا تتوقع من الأسماء المطروحة نقدياً من قبل، أن تضيف للساحة شيئاً مهما، أولاً لأنها استهلكت وقالت ما لديها، وثانيا لأن الزمن تجاوزها، وما يحدث الآن في المنتديات السردية من حوار، لا شك بأنه يمثل أولى صور هذه التحولات الأدبية..!.
|