Saturday 6th July,200210873العددالسبت 25 ,ربيع الثاني 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

سقوط الإمبراطورية: بين الرشيد وهنتنجتون سقوط الإمبراطورية: بين الرشيد وهنتنجتون
عبد العزيز السماري

قال الخليفة العباسي هارون الرشيد وهو ينظر إلى سحابة: «امطري حيث شئت فإن خراجك سيأتيني»، كانت مقولته رمزاً للنصر والتوسع الإمبراطوري، والوصول لحالة من الاستقرار «السياسي» لإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وتضم مختلف الأعراق والقوميات، وفي حكاية تروى عن الخليفة العباسي: بينما هو في مجلسه دخلت امرأة عليه وعنده أصحابه فقالت: يا أمير المؤمنين أقرَّ الله عينك، وفرَّحك بما آتاك، وأتم سعدك، لقد حكمت فقسطت، ثم تسكت، فينظر الرشيد إلى أصحابه يسألهم عما قالت، فيقولون: ما نراها قالت إلا خيراً، فيقول لهم: ما أظنكم فهمتم، أما قولها أقرَّ الله عينك أي أسكنها وإذا سكنت العين عن الحركة عميت، وأما قولها وفرحك بما آتاك فأخذته من قوله تعالى: {حّتَّى" إذّا فّرٌحٍوا بٌمّا أٍوتٍوا أّخّذًنّاهٍم بّغًتّةْ} ،وأما قولها وأتم سعدك فأخذته من قول الشاعر:


إذا تم أمر بدا نقصه
ترقب زوالاً إذا قيل تم

كأن بالرشيد بتأويله لمقولة المرأة يضع أسس نظرية سياسية تاريخية عن أهم عوامل سقوط «الإمبراطورية» وهي ان حالة الاستقرار السياسي لإمبراطورية متعددة القوميات طريق لزوالها.. بعد الوصول إلى «التمام» أو إتمام القضاء على أعداء التوسع الإمبراطوري..
في سنة 84 قبل الميلاد، بعد ان أكمل الرومان غزوهم العالم المعروف بهزيمة جيوش ميثراديتس، طرح الإمبراطور السؤال التالي: «الآن والعالم لا يقدم إلينا أي أعداء آخرين، ماذا سيكون مصير الجمهورية؟»، وجاءت الإجابة سريعاً، فقد انهارت الإمبراطورية بعد ذلك بسنوات قلائل.وفي نفس الإطار، كتب المفكر الأمريكي الشهير صامويل ب.هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات مقالة تحت عنوان: «تآكل المصالح القومية الأمريكية» في.. ,.5.NO. 76Ol V.Foreign Affairs وترجمته مجلة آفاق.
مقال ربما يعد الأهم عند محاولة فهم إستراتيجية السياسة الأمريكية.
تحدث المفكر الإستراتيجي بداية عن ما هية الهوية الأمريكية، من الناحية التاريخية، وأشارإلى ان لها مكوِّنين أساسيين: الثقافة والعقيدة. الثقافة هي قيم ومؤسسات المستوطنين الأصليين الذين هم من أوروبا الشمالية، وهم أساساً، بريطانيون مسيحيون، وأساساً، بروتستانت، وهذه الثقافة كان أهم ما اشتملت عليه اللغة الإنجليزية والتقاليد الإنجليزية المتصلة بالعلاقات بين الكنيسة والدولة ومكان الفرد في المجتمع.
والمكوِّن الثاني للهوية الأمريكية هو مجموعة من الأفكار والمبادئ الكلية توضحها الوثائق الأساسية التي وضعها زعماء أمريكا: الحرية والمساواة والديمقراطية والتقيد بالدستور والنزعة التحررية «الليبرالية» والحكومة ذات المسؤولية المحدودة والأعمال أو المهن الحرة. وتشكل هذه الأمور «العقيدة الأمريكية».. يعتمد الأمريكيون في هويتهم العقائدية على نقيض «الآخر» غير المرغوب فيه، وخصوم أمريكا غالباً يعرَّفون بأنهم خصوم الحرية.
ثم أكمل الكاتب تأصيل إستراتيجيته القومية من منهج التاريخ: في عصر الاستقلال، لم يكن في استطاعة الأمريكيين أن يفرِّقوا بين أنفسهم وبين بريطانيا من الناحية الثقافية، ومن هنا كان عليهم أن ينشؤوا هذه التفرقة سياسياً، فبريطانيا كانت تجسد الطغيان والأرستقراطية والاضطهاد، وأمريكا تجسد الديمقراطية والمساواة والمذهب الجمهوري.
وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة تبيِّن نفسها على أنها في تعارض مع أوروبا، فأوروبا هي الماضي: لذا هي متخلفة، غير حرة، خالية من المساواة، وتتسم بالإقطاع والإمبريالية، والولايات المتحدة، على نقيض هذا، هي المستقبل: فهي تقدمية، حرة، تسود فيها المساواة، ونظامها جمهوري.
في القرن العشرين، ظهرت الولايات المتحدة في الساحة العالمية، وازدادت رؤيتها لنفسها، لا على أنها نقيض أوروبا، وإنما على أنها زعيمة الحضارة الأوروبية الأمريكية، ومعادية للدولة التي بدأت تتحدى هذه الحضارة، وهي ألمانيا الاستعمارية، ثم ألمانيا النازية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، عرَّفت الولايات المتحدة نفسها بأنها زعيمة العالم الحر الديمقراطي، في معاداة الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية، وفي أثناء الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف كثيرة للسياسة الخارجية، ولكن هدفها القومي المسيطر كان احتواء الشيوعية وهزيمتها.
ويرى هنتنجتون ان الحرب الباردة رعت الهوية المشتركة بين الشعب الأمريكي وحكومته، ومن المرجح ان يُضعف انتهاء هذه الحرب هذه الهوية، أو يغيّرها على الأقل، وتوجد نتيجة ممكنة الحدوث، وهي اشتداد المعارضة للحكومة الاتحادية التي هي، قبل كل شيء المؤسسة الرئيسية التي تظهر الهوية والوحدة القوميتين الأمريكيتين.
عندما انتهت الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، علَّق جورجي أرباتوف، مستشار جورباتشوف قائلاً: «إننا نفعل شيئاً رهيباً لكم حقاً فنحن نحرمكم من عدو»، وأشار الكاتب الأمريكي في مقاله الشهير أن وجود عدو قد يكون له، في بعض الجوانب والظروف عواقب إيجابية تتمثل في تماسك الجماعات، والروح المعنوية، والمنجزات، فقد كانت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة مسؤولين عن قدر كبير من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي في أمريكا، لكن إدراك خطورة القوى الداخلية التي تتحرك نحو عدم التجانس والاختلاف وتعدد الثقافات والانقسام إلى أجناس وأعراق، قد تجعل الولايات المتحدة تحتاج، ربما أكثر من بلدان أخرى، إلى جانب آخر تعارضه، لكي تحتفظ بوحدتها.نبَّه تيودور روزفلت بعد عقود من الحروب الداخلية إلى أن «الطريقة الوحيدة المؤكدة تأكيداً مطلقاً لتدمير هذه الأمة، ومنع كل إمكانية لاستمرارها باعتبارها أمة على الاطلاق، هي السماح لها بأن تصبح شبكة من القوميات التي تتشاجر فيما بينها على الأمور التافهة.ومن خلال هذا العمق التاريخي يرى «هنتنجتون» ان بيل كلينتون تناقض مع هذا الإرث، فهو أول رئيس للجمهورية يعزز الاختلاف في البلد الذي يتزعمه وليس الوحدة، وهذا التعزيز للهويات العرقية والعنصرية يعني أن المهاجرين الجدد ليسوا معرضين إلى الضغوط والمغريات نفسها التي تعرض إليها المهاجرون السابقون، لكي يندمجوا في الثقافة الأمريكية.ويعتقد المفكر الشهير ان المصالح القومية ستتآكل أمام مد المصالح التجارية، والتي ستزيد من نفوذ الأعراق والقوميات في الداخل ومن قدرات جماعات الضغط السياسي، ونتيجة لذلك، سيصبح للهويات العرقية مغزى أكبر، ويبدو أن مغزاها يزداد بالنسبة إلى الهوية القومية.
هذا التأصيل في شرعية التنوّع والتواصل التجاري مع الخارج سيبدد الآخر غير المرغوب فيه، وسيختفي شبح العدو الذي يهدد الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم الحر، ويحذر هنتنجتون أن استمرار دخول العالم الثالث إلى عالم الديمقراطية والسوق الحر، سيقضي على حالة الآخر المعادي لقيم العقيدة الأمريكية وسيقلل من ضرورة الإيمان بعقيدة الخوف من المجهول الذي سيدمر المجتمع الأمريكي الآمن.
إن هنتنجتون يخشى الوصول إلى حالة التمام التي حذَّر منها الرشيد، كعلامة على النقصان، ويؤكِّد على أهمية وجود عدو خارجي يهدد حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، لصهر المهاجرين الجدد لكي يندمجوا في الثقافة الأمريكية.، لكن.. الحذر الشديد من ان يختفي «الأعداء» في الخارج أو يتحولوا إلى «أصدقاء» مصالح تجارية.. هي بالضبط علامة «التمام» الآيل للزوال.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved