كان عبد السلام العجيلي قد كتب قصة بعنوان «الرؤيا»، أخذت من الشهرة والانتشار في حينها حيزاً كبيراً، واهتمت بها الدوريات العربية المتخصصة، وتناولتها ثلاث أطروحات أكاديمية بالتحليل والنقد..
وفي سياق تلك القصة جاء ذكر إحدى سور القرآن الكريم على أنها «سورة الفتح»، بينما كانت السورة التي كان يتحدث عنها صاحب الرواية هي سورة «النصر». وبقي هذا الخطأ لم يتنبه إليه أحد سنوات تربو على العشر رغم الشهرة التي أحدثتها هذه القصة لدى النقاد العرب، ورغم الكتابات الكثيرة عنها..
وعندما قرر المستشرق الإنجليزي «دينس جونسون ديفيس» اختيارها ضمن كتابه «قصص عربية حديثة»، والذي أصدره بالإنجليزية، أرسل إلى العجيلي يستأذنه في الترجمة، وينبهه لأول مرة عن الخطأ الذي ارتكبه، ومؤداه أن السورة التي أوردها في القصة هي سورة النصر وليست الفتح. جاء ذلك في كتاب الدكتور العجيلي نفسه «جيل الدربكة»..
ويقول العجيلي معلقاً: «إنها واحدة لهؤلاء المستشرقين تُعد لحساب دقتهم وجدهم ونموذجيتهم في العمل»، ويواصل: «لقد قيلت في المستشرقين، ولا سيما القدماء منهم، أقوال كثيرة وأخذت عليهم مآخذ متعددة، ليس بينها الخفة والتهاون وضعف الاهتمام بما درسوا وحققوا وألفوا. بل إن إنكبابهم على دراسة آداب اللغة العربية وتاريخها قد أوصلهم أحياناً إلى درجة تقرب من عشق الصوفية في التعلق بما يدرسون..».
تذكرتُ هذه المقولة وأنا أقرأ كتاب «البدوي الأخير» للمستشرق الهولندي «مارسيل كوبر شوك»، والذي صدر أساسا باللغة الهولندية، وصدر مؤخرا مترجماً إلى اللغة العربية عن «دار الساقي» في لندن. وبغض النظر عن رؤية الكاتب وأدواته التحليلية، وما ذهب إليه من استنتاجات أو أحكام، قد تكتنفها بعض الملاحظات كما هي مثل هذه الدراسات غالباً، إلا أنه كان يبهر كل من يقرأ كتابه بتمكنه من فهم «اللغة العامية» في نجد والشعر النبطي على وجه الخصوص، واستيعابه ا لتام والعميق لدقائق التكوينات الأنثروبولوجية للبيئة التي يكتب فيها، بالشكل والمضمون الذي يندر أن تجده حتى لدى أبناء البلاد، وأعني تحديدا النخبة المثقفة، أو المتخصصة، منهم..
الكتاب يتحدث عن «التكوينات القبلية وآثارها الأدبية» في وسط المملكة. ويقرأ الكاتب هذه التكوينات من خلال الشعر العامي؛ متخذاً «ثلاثة نماذج» لدراسته، أحدها قديم: وهو الشاعر والفارس «شليويح العطاوي» وقبيلة عتيبة، والآخر معاصر وهو الشاعر «عبدالعزيز بن عبدالله الجريفاني» وقبيلة شمر، أما النموذج الثالث فكان الشاعر المعروف «الدندان» وقبيلة الدواسر، والشاعر الدندان بالمناسبة هو من يعنيه الكاتب بالبدوي الأخير، ومن خلال هؤلاء الشعراء الثلاثة، أو القبائل الثلاث، قدم الكاتب مادة ثرية، ونادرة، وممتعة، ومتعمقة، عن هذه التكوينات، من وجهة نظر غربية، ما يجعل هذا العمل في تقديري متميزاً ومبهراً إلى درجة كبيرة.
ويبدو أن الكاتب، بعد أن بذل كل هذا الجهد الذي استغرق أكثر من عشر سنوات، تابع بنفسه خلالها الرواة، وسعى إلى مناطقهم، وبقي بين ظهرانيهم مدة طويلة، وتحمل في ذلك سياط شمس الصحراء المحرقة، وشتاءها القارس، قد ارتبط وجدانيا بهذه البيئة، وعشقها، ووجد فيها مادة دسمة وثرية وخصبة للكثير من الدراسات والأبحاث التي تغري كل طالب علم حقيقي؛ غير أن ألماً عميقاً كان ينتابه، أقرب ما يكون إلى ألم الباحث أو العالم عندما يرى مادة خصبة، وأرضاً بكراً، وليس ثمة من يكتشفون، ولا يهتمون، لاسيما من أبناء البلاد الأصليين. يقول في هذا المنحى: «القادم البادئ إلى هذا العالم لا يمكن أن يتوقع مساعدة من الباحثين السعوديين أيضاً، باستثناء قلة. فالأساتذة الجامعيون يفضلون دراسة الأدب العربي الكلاسيكي «يقصد الأدب البدوي» بمعونة تعليقات كتبها باحثون ميدانيون من القرن التاسع عشر وما سجلوه من أفواه البدو في تلك الأيام فهم غير مستعدين لمغادرة مكاتبهم المكيفة في الجامعة من أجل إقامة غير مريحة في المناطق المحيطة، حيث ما زال أحفاد ذلك الأدب أحياء يرزقون». ويواصل قائلاً: «كل هذا يتضافر لمنع الباحثين من النزول من أبراجهم العاجية». ص 83 من الكتاب..
وما خفي كان أمر وأعظم. فماذا لو علمَ السيد «كوبر شوك» أن هناك من كبار دكاترتنا المحترمين، من يدعو جهاراً نهاراً، إلى نبذ هذا الأدب أصلاً، ومنع تدوينه وتوثيقه، فضلاً عن الاهتمام به والبحث فيه. فقد كتب مرة أحد كبار هؤلاء الدكاترة، والذي ما زال يرأس أحد أنديتنا الأدبية، مطالباً بأن يُمنع مثل هذا الشعر من التداول؛ ولكي يبدو هذا الدكتور الأديب الأريب العجيب موضوعياً وواقعياً، أنهى «مطالبته» في سياق أشبه ما يكون بالتنازل، بالقول جاداً وليس هازلاً: وإذا كان ولابد من النشر، فيجب أن يكتب بجوار كل قصيدة عامية يجري نشرها تحذير رسمي مفاده: «الشعر العامي مضر بلغتك وهويتك»!، كما هو الحال في التعامل مع الدخان.. تصوروا؟!..
|