بعد أشهر من الترتيبات والإعداد أعلن الرئيس بوش سياسته المكررة تجاه الشرق الأوسط تلك السياسة التي تعبر عن نفسها في اقتراح مبسط هو: السلام يتوقف كلية تقريبا على الفلسطينيين، لم يذكر خطاب بوش على الإطلاق ما يشير إلى المؤتمر الدولى للسلام، ولم يكرر مطالبته بالانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية التي أعلنت قبيل إلقاء بوش لخطابه بوقت قصير عزمها على اجتياح غزة.
وفي الخطة الموضوعة من قبل الرئيس الأمريكي، فإن أي تصرف على إسرائيل اتخاذه ينبغي أن يسبقه خطوات إيجابية تتخذ من قبل الفلسطينيين.
جاء جوهر الخطاب والذي قصدت الإدارة الأمريكية أن يجيء مثل إلقاء حفنة من الماء البارد على عملية السلام التي أشرفت على الموت مغلفا برسائل تسوى ما بين معاناة الشعب الفلسطيني وبين «الإرهاب» الذي يشعر به الإسرائيليون.
ولقد استطاع القادة العرب العثور في ثنايا الخطاب على بعض الإشارات لأشياء طالبوا بها إسرائيل لفترة طويلة، ربما كان هذا هو السبب الأول الذي جعل رد فعل العرب على الخطاب في البداية هو الصمت.
إذا حدث وقبل الفلسطينيون مطالب بوش التي تشمل: انتخاب قيادة فلسطينية جديدة بديلة عن عرفات، وفى بوش بوعده بشأن الدعم والمساندة القوية من الولايات المتحدة في بناء دولة ديموقراطية، فسوف تقرر الولايات المتحدة ما إذا كان الفلسطينيون قد وفوا بالشروط التي حددها والتي سوف تسمح لهم بخلق دولة مؤقتة تمهيدا للدخول في مفاوضات لتحديد حدودها النهائية مع إسرائيل .
وقد جعل بوش مسألة إقامة الدولة الفلسطينية مشروطة باتخاذ الفلسطينيين لسلسة من الإجراءات القاسية التي قد يستحيل تحقيقها، ففي حين يقترح بوش جدولا زمنيا مدته ثلاث سنوات لقيام الدولة الفلسطينية، نجد أن مدة السنوات الثلاث هذه لن يتم البدء في احتسابها إلا بعد قيام الفلسطينيين بانتخاب قيادة جديدة وبنائهم لمؤسسات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة.
ونوعا ما لم يأت خطاب بوش بجديد عما جاء بخطابه الذي ألقاه في الرابع من أبريل والذي حدد فيه معالم دوره في صنع السلام بالشرق الأوسط، فقد تشابهت لغة الخطابين إلى حد كبير ولا سيما فيما يخص إسرائيل.
ولم يقدم بوش أية أفكار جديدة بشأن التوصل لحلول لقضايا الوضع النهائي، مثل قضايا الحدود والقدس، لذلك يستنتج المحللون أن الخطاب يعكس خطة مرسومة من قبل لجنة من مسؤولي الإدارة الأمريكية يتمتعون بقوة إرادة ولكنهم في نفس الوقت على خلاف شديد بشأن القضايا الرئيسية.
ومن وجهة نظر أخرى، مثل خطاب بوش تخليا قويا عن سياسة الحياد التي انتهجتها الإدارة الأمريكية في السابق، ولكن في نفس الوقت تأتي هذه السياسة الجديدة مؤيدة لوجهة نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي آريل شارون، والتي تقوم على الزعم بأن عرفات لم يعد شريكا مناسبا للسلام، وأن الدخول في مفاوضات لإقامة دولة فلسطينية يجب أن يسبق بإصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية في السلطة الفلسطينية.
ومن المفارقات التي حملها هذا الخطاب أن «التحذير العنيف» من قبل الإدارة الأمريكية لعرفات انتهى إلى إعلان ضرورة تخلي عرفات عن السلطة الفلسطينية، في حين انتهى «التماس» الإدارة الأمريكية إلى إسرائيل بالخروج من الأراضي الفلسطينية إلى الإقرار بأن هذه الأراضي يجب أن يتم التخلي عنها والخروج منها بعد أن يتقدم الفلسطينيون في تحقيق الأمن، ومنذ الرابع من إبريل وعى بوش عدة دروس من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الدموي والمتقلب، فلعدة أسابيع من الربيع المنصرم ظل آريل شارون يتجاهل كلية مطلب بوش له بسحب القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية، وهكذا تعلم بوش الدرس، تعلم أن تحدي «شارون» دون التنسيق معه يشكل تجربة مريرة، وذلك على حد تعبير مارتن إنديك مسؤول منطقة الشرق الأوسط في عهد الإدارة الأمريكية السابقة.
وقد ذهب البعض إلى أن الإدارة الأمريكية قد نفد صبرها من عرفات عقب حدوث هجمات أودت بحياة 26 إسرائيليا، ولكن حتى من قبل حدوث هاتين الهجمتين نقلت «سان جوز ميركوري نيوز» عن كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي قولها: إن السلطة الفلسطينية فاسدة وتدعم الإرهاب، وأن هذه السلطة لا يمكن أن تمثل قاعدة لانطلاق دولة فلسطينية.
وكانت تلك هي التعليقات التي قادت إلى التحامل بشدة على عرفات، ورغم أن الإدارة الأمريكية الحالية نأت بنفسها عن مسألة بناء الدولة، إلا أن بوش قد وضع أهدافا للفلسطينيين مثل ضرورة وضع دستور فلسطيني جديد وإجراء انتخابات بمشاركة من الولايات المتحدة في ذلك، وهي أمور يتم الإعداد لها بالفعل من قبل الفلسطينيين.
ولكن بوش طالب بأن يمارس المجلس التشريعي الفلسطيني سلطات حقيقية وأن يمنح رؤساء المجالس المحلية بعض السلطة، وهو ما وصف بأنه حيلة تفتقر إلى المكر تستهدف إغراء مسؤوليين فلسطينيين لتأييد خطة بوش.
وقد وعد الرئيس الأمريكى بقيام الولايات المتحدة، إلى جانب دول أخرى، بالمساعدة في وضع الدستور الفلسطيني، وبناء مؤسسات شرعية ومراقبة الانتخابات، وتمويل النمو الاقتصادي وخلق نظام مصرفي وبناء قوة أمنية يمكنها استئصال شأفة «الإرهابيين».
وبالفعل بدأ جورج تنيت مدير المخابرات الأمريكية في تدبر هذا الأمر بالتشاور مع المصريين والأردنيين لوضع خطة لإصلاح قوات الأمن الفلسطينية، وقد كانت رؤية بوش بشأن دولة فلسطينية بدون عرفات أمرا غير مرض لكثير من الفلسطينيين لأن خطاب بوش ظل صامتا إزاء قضايا أخرى مهمة بالنسبة للفلسطينيين، فقد خلا خطاب بوش من أية إشارة إلى كيفية حل النزاع بشأن الحدود، إذ أشار فحسب بكلمات عامة إلى حدود ما قبل عام 1967. وهي كلمات يمكن لكل طرف أن يقوم بتفسيرها وفقا لرؤيته، كذلك فقد صمت بوش عن كيفية متابعة الإدارة الأمريكية لما جاء بمبادرته، كما لم يضع تصورا للعملية التفاوضية بين الجانبين حتى من خلال مؤتمر دولي للسلام، أيضا لم يظهر للفلسطينيين كيف سوف يقود البدء في عملية الإصلاح السياسي وتوفير المزيد من الأمن إلى قيام دولة فلسطينية مؤقتة.
وقد أرسل بوش وزير خارجيته كولن باول للمنطقة للحصول على تأييد الخطة التي طرحها وذلك كما فعل تماما في أعقاب خطابه الذي ألقاه في الرابع من إبريل ولكن بوش لم يعلن عن ذلك.
وبإخراج عرفات من الصورة، ربما يفتقر عرفات للدافع للتعاون، ويتحتم على بوش الآن أن يعلن من الذي سوف تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بالتفاوض معه خلال الأشهر القادمة.
ومن وجهة المحللين الغربيين لا توجد على الساحة الفلسطينية في الوقت الراهن أية حكومة يمكن أن تتولى زمام السلطة وتتمكن من إيقاف الإرهاب أو إجبار الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية كما لا توجد القيادة الفلسطينية التي تتمتع بسلطة أو تحظى باحترام بما يؤهلها للتفاوض مع إسرائيل.
*عن «الواشنطن بوست» خدمة الجزيرة الصحفية |