عندما تكون طيِّباً إلى أبعد الحدود، وعندما تتجاوز بعواطفك كل الحدود، فتحبُّ كلَّ الناس، وتمدُّ يد العون لكل محتاج إليها سواء طُلب منك أو لم يُطلب، وتعمل على نُصرة كل مظلوم حتى لو أدَّى ذلك إلى الإضرار بك، وتنسى واجبك نحو نفسك وأهلك وتتكلف في سبيل الآخرين ما تطيق وما لا تطيق، وتتجاوز في ما تفعل مقولة المصطفى صلى الله عليه وسلم إمعاناً في فعل الخير فتحب للآخرين أكثر ممّا تحب لنفسك أحياناً فتبلغ بذلك قمة «الإيثار» ثم تجد نفسك من جرَّاء ذلك كله تقف في قفص الاتهام لأن وعدت - تطوعاً منك - في بذل قصارى جهدك لتحقيق أمر ما فلم تستطع فيتهمك صاحبه بأنك لا تريد خدمته بدلاً من أن يشكرك على بذل الجهد، وقد يستغل آخر مواهبك في الإخلاص وحبك لفعل الخير فيوجِّهك - دون ان تدري - لتخدمه فيما لا يستحق فينقم عليك آخرون. وقد يعجب من تتطوع بخدمته وتحقق له ما يريد فيسيء بك الظن ويعتقد أنك ترمي إلى هدف أكبر من وراء ما قدَّمتَ له.
وعندما يكون أكبر عيوبك أن تُحسِن الظن بكل الناس وتُحسِن الظن بنفسك فتعد بما تستطيع وبما لا تستطيع إيمانا منك بأن الله سيوفقك في فعل الخير لمستحقه واعتقاداً منك بأن بذل الجهد في حد ذاته عمل عظيم ثم تتلقى بعد ذلك أكوام اللوم، والعتاب والاتهامات وسوء الظن ممن خاب ظنهم فيك لعدم قدرتك على بلوغ ما أرادوا منك.
وقد يأتيك صديق ناصح فيقول لك: إن هذه طيبة مُفْرِطة وأن الطِّيبة المفْرِطة في هذا الزمن تعتبر «غفلة» ويعتبرها البعض «غباءً» وان «الخُبْث» و«اللؤم» والخسَّة و«الأنانية» هي العملات الرائجة هذه الايام في سوق التعامل بين الناس وقد يقول لك ناصح آخر بصدق: ان طينتك الطيبة بحاجة الى أن تُعجَن بأوقية من «الخُبْث» لتستطيع التعامل مع العصر وإلا فأنت «مُغفَّل» لأنك تحسن الظن بداية وتحسن النية في كل عمل ، وتُصدِّق كل ما يقال وتتوقع من الناس ما تفعله لهم وعندما يحدث عكس ذلك تُصدم لكنك لا تتعلم، لا تعاملهم بالمثل، فتحسن إلى من يسيء إليك، وتعفو عن ما تقدر عليه، وترضى بسرعة اذا غضبت،ولا تتسرب قطرة من حقد او كراهية الى قلبك لأنك تغسله بذكر الله كل ليله قبل ان تنام من أوضار الدنيا لأنك تؤمن ان من يطمع في عفو الله ومغفرته فليتسامح مع عباده.
ولا يكون الاجر على الله إلا في الأمور التي يتجرد الانسان فيها من الطَّمع في طلب المثوبة أو الشكر أو الثناء من الناس، وهي أشياء زائلة ومؤقتة ولا تستمر طويلاً، لأن رأي الناس فيك قد يتغير في لحظة شكٍّ أو سوء ظن أو وشاية أو هوى.
وسيرضي عنك - بهداه وتوفيقه - كل من تريده أن يرضى عنك من البشر. أما اذا طلبت رضا الناس وحدهم فإنك ستلهث كثيراً وتتعب كثيراً، ولن تظفر بالرضا الذي تريد، وقد قالت العرب قديماً «رضى النَّاس غاية لا تُدرَك».
لهذا فإن ربَّ العباد اختصر لك الطريق حين وجَّهك بالتقرُّب إليه لتجد نفسك قريباً من عباده، افعل الخير لمن يستحق، فإن كان فيمن لا يستحق، فان الله لن يعدم أجرك، ولا تندم على معروف قدَّمته لمن لم يشكرك ولم يحفظ لك حسن صنيعك.
واستمر وسامح من كل قلبك، ولكي تثبت لنفسك طهارة قلبك من رجس الانتقام، أحْسِن لمن أساء إليك في أقرب فرصة ممكنة، ولا تقل: اني تسامحت وكفى، فهذا دليل أن في قلبك غلٌ عليه ، وثق انك حين تفعل ذلك فستعلِّمه كيف يتسامح ويُحِسن وسيكون لك الأجر العظيم في فضل المحبة والتسامح بين الناس، والدفع بهذه الأمة نحو مجتمع أنقى وقلوب أطهر.
اجعل دعاءك كل ليلة قبل ان تنام «اللهم إني عفوت عمَّن ظلمني وأَحْسنتُ لمن أساء اليَّ وتصدَّقت بعرضي على الناس» وأثبتْ ذلك الدعاء بصدق في معاملاتك اليومية. وثق تماما ان الطيِّب لا يستطيع إلا أن يكون طيّباً، فهل تستطيع الوردة أن تغيِّر رائحتها الذكية اذا ما شمَّها من لا يستحقها؟ كذلك النحلة لا تستطيع ان تستبدل عسلها بسمِّ، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بهذا المعنى حين قال «مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل الا طيِّباً، ولا تضع إلا طيِّباً».
فالعسل لا يمكن ان يكون مُرَّاً على لسان آكله مهما خبثت دخيلته، وليس أمام الطيِّب من خيار إلا أن يكون طيباً، ولن تنفع فيه أوقية من الخُبثْ!
|