Saturday 29th June,200210866العددالسبت 18 ,ربيع الثاني 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

شيء من شيء من
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

في السياسة لا يوجد عدل، ولا أخلاق، وإنما مصالح، ولأنها كذلك، فلا محل في العالم اليوم لأولئك الذين يتعاملون في الشأن السياسي خارج هذه المفاهيم والمنطلقات..
أمريكا تدعم إسرائيل.. والرئيس بوش وإدارته، لا يملون، بسبب ودونما سبب، من كيل المديح لإسرائيل، واظهار دعمهم لها ولسياساتها المتعجرفة والدموية والاستعمارية في المنطقة..
هذه حقيقة لا يمكن تجاوزها بحال، غير ان التعامل مع هذه الظاهرة يجب ان ينطلق من منطلقات العقل وتغليب المصلحة، وليس من العواطف والغضب والرغبة في الانتقام والتشفي..
ومصالحنا ترتبط بعلاقاتنا بالغرب وأمريكا برباط وثيق، حيث هم من يشترون بترولنا، وهم أصحاب الدولار الذي يحكم «قوة» عملتنا، وبالتالي قوة اقتصادنا، فضلاً عن اننا نستورد منهم كل شيء تقريباً، من الإبرة وحتى الطائرة، والقول ان بإمكاننا ان نعيش بمعزل عن أمريكا والغرب عموماً، في هذا العصر، وفي ظل تجربتنا التاريخية، هو ضربٌ من ضروب التخريف، أكثر بكثير من كونه تفريطاً بالمصلحة وتدميراً للاقتصاد..
وعندما «نضحي» بكل ذلك، لمجرد ان نعاقب أمريكا على موقفها مع إسرائيل، فنحن لا نعاقب أمريكا بقدر ما نعطي لإسرائيل الحبلَ على الغارب، لتنفرد بأمريكا، أما نحن فإلى نفق مظلم لا يعلم إلا الله وحده نهايته ونهايتنا..
أمريكا لن تغير سياساتها لمجرد أننا قررنا عدم أكل الهامبرجر من «ماكدونالدز»، ولن تُفكر فينا شركة «جي إم سي» إن نحن ابتعنا أو امتنعنا عن شراء «الجموس»، وهي الشركة التي ميزانيتها أضعاف ميزانيتنا للمعلومية، ولا يهم صانع السياسة الأمريكي غضَبَنَا وغضبَ شارعنا، سواء أحرقنا العلم الأمريكي، أو مزقنا دمية للرئيس بوش، فما هكذا تدار الأمور هناك، وما هكذا يوردون إبلهم للأسف!..
وكنت قد كتبت مقالاً قبل مدة أدعو فيه إلى تغليب مصالحنا الوطنية على رؤانا القومية، في التعامل مع الغرب بصفة عامة، وأمريكا بصفة خاصة، وقد عاتبني كثيرون على هذا الموقف، الذي وصفه أحدهم بأنه موقف «شوفيني»، وآخر بأنه موقف انعزالي، يهمش انتماءنا إلى الأمة، ويجعلنا نعيش بلا هوية..
الأمر ليس كذلك بكل تأكيد.. إنما هو يأتي من منظور واقعي وموضوعي، يرى الأمور انطلاقاً من المصلحة، مصلحتنا الوطنية أولاً، ومن العقل وليس من العواطف الجياشة، والشعارات الطنانة، التي لم تقتل ذبابة قط للأسف الشديد..
نحن مثل غيرنا نعاني من المشاكل الاقتصادية، بل إن مشاكلنا أكثر إلحاحاً، فهناك مليون سعودي يضافون إلى عدد السكان في المملكة كل سنتين كما تقول الاحصاءات، هؤلاء يحتاجون إلى كل ما يحتاجه أي مواطن من خدمات، كالتعليم والطبابة والإسكان والمواصلات والكهرباء والماء، وغيرها، ونحن خرجنا من حرب تحرير الكويت، والتي تسبب فيها بعض القوميين العرب بالمناسبة وصفق لها الباقون، بديون أثقلت كاهلنا، وجعلتنا ننتقل من مصاف الدول ذات الأرصدة الدائنة، إلى الدول المدينة، حتى وصل الدين العام إلى أكثر من 600 ألف مليون ريال كما يقولون، وعندما نتجاوز كل هذه الحقائق، وننسى همنا الاقتصادي الوطني، ونجعل الرؤية القومية، أو كما يسمونه: الهم القومي، له الأولوية المطلقة، حتى على حساب مصالحنا الوطنية، معنى ذلك ان «البطالة» ستزيد، وأن الدين سيتفاقم، وان الإنسان السعودي سيعاني أكثر من ذي قبل، ليصبح استقرار البلاد برمته معرضاً للخطر..
قد يتساءل البعض: ما علاقة وضعنا الاقتصادي بعلاقاتنا مع أمريكا والغرب؟.. ورغم انه سؤال ساذج، إلا انه مطروح بكل قوة، فذلك الشاب الصغير الذي يقاطع البضائع الأمريكية، ويكتظ حقداً على أمريكا، ويرى أننا يجب ان نقف بكل قوانا لتحقيق الضغط على أمريكا، حتى المطالبة بقطع البترول عنها، كما نلحظ ذلك بقوة من مكالمات بعض السعوديين لبعض المحطات التلفزيونية الفضائية، معنى ذلك ان هناك تياراً كبيراً ومنتشراً ما زال لا يدرك ان مثل هذه المطالبات هي ضربٌ من ضروب الدعوة إلى الانتحار الاقتصادي، وانه كمن يطالب بأن نقذف الآخر ب«خبزنا» الذي نعيش منه، لمجرد الانتصار لجيراننا وحمايتهم، وفي تقديري ان المسؤول عن هذه الرؤية التدميرية لدى بعض مواطنينا هي شعارات الفكر القومي، التي «فرخت» في عقولنا طوال أكثر من نصف قرن.. ولعل الذي لم يدركه هؤلاء، وبالذات صغار السن منهم، اننا خلال نصف قرن أيضاً، مررنا بتجربة، كنا فيها نعتبر ان المصلحة الوطنية هي الاتجاه الأول الذي يجب ان تتجه إليه بوصلتنا، وان الانماء الاقتصادي الداخلي هو الذي يجب ان نعطيه كل الأولويات، حتى في علاقاتنا الخارجية.. وكان من صَدّروا إلينا شعارات «الفكر القومي»، ينتقون أقسى وأبذى وأقذى العبارات، فيصفنا المعتدلون منهم ب«الرجعية»، ويصفنا متطرفوهم ب«الخيانة»، أما النتيجة اليوم فهي أن المملكة أنجزت أكبر عملية تنموية في تاريخ دول المنطقة، وفي وقت وجيز نسبياً، بينما أن الدول القومية، وبالذات البترولية منها، هي اليوم التي تعاني من فقدان أبسط مقومات البنية التحتية الخدماتية، كما ان دخل المواطن في تلك الدول ما زال أقل بكثير مما يجب ان يكون، قياساً بالثروات الوطنية هناك، ومن نافلة القول ان الاستقرار السياسي، نتيجة لهذا الاخفاق الاقتصادي، يتم فرضه في تلك الدول بالحديد والنار، ولو يسمح لي المجال لأتيت بأرقام إحصائية، وموثقة، تثبت أين كنا وأين كانوا، ثم أين أصبحنا وأين أصبحوا. صحيح ان هناك الكثير من الملاحظات هنا وهناك على تجربتنا التنموية، وصحيحٌ أيضاً ان بالإمكان أفضل مما هو قائم، ولكن عندما تقاس هذه التجربة، بكل ما يكتنفها من ملاحظات، بتجارب الدول التي من حولنا نجد انها الأنجح والأفضل على الإطلاق..
ولا يمكن، بحال من الأحوال، أن نتجاهل مثل هذا التاريخ، وكل هذه الحقائق، وننساق وراء آراء القوميين والغوغائيين مرة أخرى، فنحن «بقينا»، ومن ثم تفوقنا على من حولنا لهذه الأسباب تحديداً، فهل من العقل والحكمة أن نفرط في كل ذلك؟.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved