بدأت منذ ايام الحملة المضادة والمرتقبة من الجناح الديمقراطي الامريكي لتقويض حملة الرئيس الامريكي بوش ومشروعه المسمى الحرب على الارهاب، تلك الحرب التي كلفت الشعب الامريكي مليارات الدولارات، ناهيك عن حالة الترقب والخوف التي ساهمت وسائل الاعلام الامريكية في تأجيجها للحصول علي استمرار الدعم الشعبي وتناغمه معها، واستطاع الجناح المتشدد في الادارة الامريكية الحاكمة الزج بالرئيس بوش بعد تسليمه لواء الحرب على الارهاب ودفعه في متاهات من الحروب والتهديدات والتوسع والانتشار عبر «الباسيفيك»،التي خاضت عبرها القوات الامريكية تجارب مريرة في السابق، واصبحت اخطر محطات تلك الحرب تمركز قواتها بالقرب من الحدود الصينية الغربية في كل من اوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان وكيرغيزيا، لتشكل تهديداً دائماً وضغطاً مستمراً على العملاق النائم، وتقضي على المشروع العسكري - الاقتصادي الذي ابرمته الصين مع روسيا والجمهوريات الاسلامية في آسيا، في خطوة منها للوصول الي مصادر الطاقة في بحر قزوين.
لقد استطاعت الحملة الامريكية على ما يسمى بالارهاب في عزل الصين شرقا وغربا وجنوبا، وتمكنت من إغراء روسيا العدو التقليدي والحليف الجديد للصين للسير ضمن محور واشنطن، لجني مصالح مهمة كالتغاضي الامريكي عن اعمال الجيش الروسي في الجمهوريات القوقازية المطالبة بالاستقلال، والاستفادة من قروض المؤسسات المالية الدولية، والحصول على عضوية في دائرة صنع القرار في حلف الناتو، وفتح التجاوب الروسي امام تقدم الامريكان في اراضي الاتحاد السوفييتي السابق شهية الادارة الامريكية لتصل قواتها الى مشارف الحدود الروسية الجورجية، وهي الاراضي التي لم يكن يحلم حكام الولايات المتحدة السابقون ان تطأها اقدامهم، وتزامنت هذه الحملة بنشاط سياسي للادارة الامريكية كان اهمها زيارة الرئيس بوش الى اليابان خلال الاشهر الماضية لتقوية تلك الجبهة الشرقية للصين، حيث اعلن فيها ان القرن الواحد والعشرين هو قرن «الباسيفيك»، وقد حصل في هذه الزيارة على دعم ياباني بـ 700 جندي والعديد من بارجات الامداد للمشاركة في العمليات العسكرية الامريكية في افغانستان بعد اجراء حكومة جونيشيرو كويزومي تعديلات تسمح لليابان بالمشاركة العسكرية خارج اراضيها بحجة الدفاع عن النفس ضد الارهاب، واغتنم الرئيس بوش هذه العلاقة الحميمة لتكليف طوكيو بمحاولة جس نبض طهران شريكها الاقتصادي المهم والتعرف علي ردود فعلها تجاه اي تحرك امريكي نحو العراق، بالاضافة الى محاولة تضييق علاقات ايران مع الصين، امام البدائل اليابانية.. وعلى المحور الهندي التي اجرت معها الولايات المتحدة مناورات عسكرية في الايام الماضية، فواشنطن مطمئنة على العلاقة الاستراتيجية التي تكفلت اسرائيل بتعهدها، تجنبا لاحراج امريكا في علاقاتها المهمة مع باكستان.. وفي اطار هذه التحركات العسكرية والسياسية، شعرت الصين بالحصار الذي ضربته عليها امريكا وحلفاؤها بحرا وجوا وبرا، ووصل الامر الى درجة الخطر عندما رأت ان مصادر في الخليج او آسيا اصبحت محاطة بالقواعد الامريكية، وشعرت بكين ان وضع كوريا الشمالية حليفها الاستراتيجي ضمن محور الشر انما يعنيها هي في الاخير، وهو الامر الذي جعل الرئيس الصيني يقوم بزيارات مكوكية بحثا عن تحالفات ضمن المحور المعارض للحرب الامريكية على ما يسمى بالارهاب، فكانت اهم محطاته اوروبا التي وجد فيها تجاوبا حذرا، وايران التي حاول تعزيز علاقاته العسكرية والاقتصادية معها.
في خضم كل هذه الحملة العسكرية الواسعة النطاق وغير المسبوقة التي يخوضها البيت الابيض مدفوعا بالجناح المتطرف في ادارته، وبالرغم من ان الاعلام قد ضخمها واعطاها اكثر مما تستحق، فان العراق ومشروع تغيير نظامه يعتبر من اهم المحطات القادمة فيها، والذي قد لا يقل دموية عما حصل في افغانستان، فماذا يقول الرأي العام العالمي والامريكي عندما يرى هذه الحملة المتواصلة التي تخبط خبط عشواء والحافلة بكثير من التناقضات والمظالم التي ادت الى تعرية وفضح مشروع الحرب ضد الارهاب الذي روجت له الآلة الاعلامية بشكل لم يسبق له مثيل، خصوصا عندما تصل فصول تلك الحرب الى تغيير نظام بالقوة من قبل دولة عظمى كالولايات المتحدة عبر تجييش نصف مليون جندي كما يتم الترويج لها، وهب انها استطاعت تغييره فعلا ووضعت مكانه نظاما مواليا، فماذا ستستفيد من ذلك؟ فهل سيكون الشعب العراقي بعد ذلك صديقا لامريكا مع ما ستحمله الحملة على العراق من مآس وآلام، ان سابقة كهذه ليست سوى نوع من انواع الارهاب، ودرب من دروب الظلم واذلال الشعوب، يتم تنفيذها باسم الحرية والديمقراطية، ومن هنا فان سياسة تغيير الانظمة التي تعتمدها امريكا في الشرق الاوسط او امريكا الجنوبية، وتهديد المنظمات الشعبية المناضلة من اجل نيل حريتها واستقلالها، سياسة بآلية تنم عن الفشل، والظلم والازدواجية في المعايير ،الا كيف يصدق العالم هذه السياسة في الوقت الذي تقوم فيه تلك الدولة العظمى نفسها بدعم ارهاب الدولة الإسرائيلية من قتل شعب برمته وتشريده وتجريف مزارعه واحتلال اراضيه وتدمير بيوته والزج بشبابه في السجون؟!
كيف يصدق العالم هذه الازدواجية المفضوحة وهذا الارهاب المكشوف؟ ثم كيف يمكن ذلك للعالم الحر السير في محور امريكا الذي يستهتر بحرية الشعوب وحقها في الاستقلال؟!
ثم ماذا حصدت الولايات المتحدة الدولة العظمى التي ينظر اليها كحام للديمقراطية والحرية في العالم من جنوح حملتها وخروجها عن مسارها، لتصبح حملة استعمارية من نوع جديد تهدد مصالح الشعوب وحقها في الحرية والاختيار، ان عدم مراجعة الجناح المتشدد في البيت الابيض سياساته وكبح جماحه سيؤدي بالولايات المتحدة الى التورط في ازمات دولية مع دول مثل العراق وايران وحتى الصين التي بدأت تشعر ان مصالحها الاقتصادية اضحت مهددة وان القواعد الامريكية اصبحت تحاصرها وتعرقل نشاطها السياسي والاقتصادي، ويؤدي الى تهديد الامن الدولي برمته خصوصا بعد ان تلاشى مفعول حملة الحرب ضد الارهاب الاعلامية التي صمت بها الآذان ولم يعد احد يصدقها وفضح مضمونها يوم ان توج الرئيس بوش شارون بلقب «رجل سلام » فور خروجه من مجزرة جنين، ويداه لم تزالا ملطختين بالدماء.!
لقد اصبح من الواجب على الرئيس الامريكي العودة الى معالجة مشاكل امريكا الداخلية، وتنفيذ وعودة الانتخابية للشعب الامريكي الذي حاولت ادارته تغطيتها بحربها اللانهائية على ما تسميه الارهاب، كما ان تورط امريكا عسكريا في بقاع شاسعة من العالم تحت ذلك المسمى لا يؤدي إلا الى زعزعزة الامن العالمي وزيادة المآسي واليأس لدى الشعوب الضعيفة والفقيرة، ان تجربة امريكا في افغانستان بعد ان افرغت فيها حمولتها من القنابل والمتفجرات على ما تبقى من اطلال وصخور وجبال ثم فشلها في مطاردة اشباح طالبان والقاعدة، دليل ساطع على ان محاربة الارهاب لا تكون بتجييش الجيوش وحاملات الطائرات والصواريخ، وانما يتم وكما دعا اليه عقلاء العالم عبر النظر في اسبابه وجذوره السياسية والاقتصادية، تجنيبا للعالم من الارهاب والارهاب المضاد، وحتى لا تنحرف تلك القوى الجرارة عن هدفها، وتستغلها اجنحة مستهترة بالقوانين والشرائع الدولية لتحقيق مآرب اخرى تكون علي حساب الاستقرار والامن العالميين.
لقد اصبح من الضروري على الادارة الامريكية اعادة النظر في سياساتها الخارجية واستراتيجياتها وعلاقاتها مع الشعوب والامم بشيء من الحوار والاحترام وتبادل المصالح، والتعاون الجماعي لمعالجة الارهاب، عبر التطرق لأسبابه، بعيدا عن ارهاب الدولة المحفوف بالازدواجية والتمييز الذي يتم ممارسته ضد العالم، مما افقدها المصداقية وادى الى اتساع رقعة العداء لأمريكا، كما اصبح حتما علي الشعب الامريكي ان ينقذ نفسه من هذه العقد التي غرستها فيه الآلة الاعلامية عبر حملاتها التي يشوبها كثير من التضليل، وقلب الحقائق، وان يحاسب ادارته عن تصرفاتها التي تمارسها باسمه وباسم الحرية والحضارة، كي لا يدفع الشعب الأمريكي ومعه شعوب العالم الضعيفة والفقيرة ثمن الارهاب والارهاب المضاد.
|