لعل البداوة كنمط معيشي تعد من أعظم ما أنجزته البشرية في استغلال الصحراء الجرداء خلال الحقب الماضية. قفار يباب وأرض موات تُطوِّعها جماعات بشرية، وتعشقها بكل فخر واعتداد. لكأنما هؤلاء البشر تجاوزوا نواميس الطبيعة الأرضية، وطفقوا مكتشفين كوكباً ناشزاً ملكاً لهم وحدهم. انهم البدو، أسياد البراري وفرسانها الأشاوس.
والبدوي في صحرائه نبيل جليل، يخضِّب لهيب الشمس بحدقتي عينيه الذئبيتن، فيغدو رَمَض الرمل بهياً كالأقحوان. يباغت الضيف بكفيه النديتين، ويباغت الخصم بمخالبه القاسية، ويغزو الابرياء حين تجرفه الريح السموم. وإذ يستريح يحتسي قهوة ويبث شجى مناخاته قصائد تذيب الحجر.
منذ دهر تواجَه البدويُ والحضريُ في بقعة سمَّاها التاريخ عربية، فامتشجت اوصراهما قسوة ولينا. وقيم البداوة وطبائعها متناقضة مع تلك المتحضرة، فلا مندوحة من ان ينشأ تآلف او صراع بينهما حين يلتقيان. ومحصلة هذا التلاقي هي تفوق التحضر، كما يقرر كتبة المدن البعيدة. ولكن هيهات، ففي جغرافية العرب - كما في تاريخهم - ما فتئ الصراع مستمراً إلى أمس قريب. في هذه الجغرافيا يقتحم التراب الميت كل التضاريس، حتى لتبدو وكأنها بحر صحراوي تنتأ فيه صخور ضئيلة متباعدة هي واحات الريف وعمران الحضر.والتاريخ الحديث يسجِّل لنا أن البدو الرحل الأقحاح قد بدأوا مسيرتهم نحو الفناء منذ بضعة عقود، وهم الآن في طور الانقراض او يكادون. على أن أعراف القبيلة وقيم البداوة وثقافتها ما انفكت تهيمن على حياة المجتمعات العربية ذات الاصول البدوية.
وليس في ذلك ما يدعو للعجب او التساؤل، انما الاستفهام عن المجتمعات ذات الاصول الحضرية. فهل هذه الأصول حقاً حضرية مدينية ام ريفية؟ هل هي بدوية؟ ام ربما مزيج من هذا وذاك؟ ام شيء آخر يتداركه فقهاء الاجتماع؟!
اذا استطعنا ان نستثني بعض أجزاء من مجتمعات النيل والرافدين وشرق المتوسط، فان اقتصاد المجتمعات المستقرة في المنطقة العربية اعتمد على الفلاحة مع بعض الحرف اليدوية، وصيد الاسماك في السواحل. هناك، كانت العادات والتقاليد او ما يدعى «التضامن الآلي» لها اليد الطولى في الضبط الاجتماعي، وفي احيان اخرى كانت اعراف القبيلة او العشيرة هي الضابط الاجتماعي الاقوى. وبين البداوة والتحضر، اقتصرت هذه المجتمعات في معيشتها على الكفاف الغذائي والسكني والصحي والتعليمي إلا فيما ندر.هذه الجماعات المستقرة التي تعيش في بؤر زراعية، سماها البعض مدنا، محاصرة من كل جانب بالبيئة غير المستقرة: بشرياً «قبائل البدو الرحل» وطبيعياً «الصحراء». وعندما يحل القحط المعتاد، تفصح الجغرافيا سرها للتاريخ، هكذا: نزوحاً او هجرة، غزواً أو دفاعاً، أوبئة وفتناً كقطع الليل تتوالى. اضطراب يدب في مفاصل اصحاب القرار، فيغدو القرار ارتجالاً وعبثا، ويغدو العلم رديفا للجهل! وتنتصر البداوة النبيلة، وتكون العزة للقبيلة.كان من العسير على البلدة ان يتراكم ازدهارها في قبضة الصحراء، كان من الصعب عليها ان تنضج كمدينة. فهنالك القحط، زائر عبوس نمطي لبلاد العرب، لن يتأخر كثيرا، مهما ظن اهل البلدة انهم حصنوها واقاموا الاسوار والقلاع المتينة، وملأوا الخزائن بالمحاصيل والذهب. فان لجدب الصحراء قدرة تدميرية: انياب في الداخل من صراعات مشرذمة، وآبار غائرة، وطابور عشائر. انه ملحمة بين البداوة والتحضر، كفلت استمراريته ببيئة الصحراء.. انها جغرافية العرب القدماء! فردوس وجحيم لا يستقران! بلدان تصاهر الموت، وموت ينبثق منه الميلاد، وعدم يأوي الطرفين.. بدواً وحضراً!
محصلة القول، اذا كان التفاعل بين البدو والحضر استمر لحقب مديدة، ألا يعني ذلك ان الحضري، وقتئذ، يتداخل في سلوكه كثير او بعض بداوة. فهو مضطر الى الابقاء على بعض صلاته مع جذوره العشائرية تحسباً للتحالفات و/ أو الحماية، أو حتى دفع الأتاوة.
وهو منساق لقناعات بعض سلوكيات البداوة نتيجة الجوار والمتاجرة، الحصانة، المقايضة، حماية طرق القوافل، تنظيم الرعي، ترتيب الغزو.. الخ. والخلاصة ان الحضريَّ العربي كان في بلدته الضيقة محاطاً ببحر من الصحاري وشبكة قبائل بدوية متحركة، فكيف لا يكون بدوي المسلك أكثر من حضريِّه؟! وكيف لا تكون البداوة هي أسُّ المجتمعات العربية السابقة؟
|