للسَّفر رائحةٌ عبقةٌ...
وللمحطَّات كذلك...، لا أدري أيُّ حنين ينتابني حين أهمُّ بالسَّفر، تصطفق في دخيلتي أخيلة كثيرة تركض بي كأنَّها جواد الشَّاعر العربي القديم، تكرُّ بي وتفرُّ... لا ألحقها ولا أقوى عليها...
تذكَّرتُ محطات السَّفر الأولى لي في الحياة... ومتاهات الدروب فيها، والتعرُّف على كلِّ جديد، والوقوف على غير المألوف، وعقد الصداقة بأبخرة القهوة... وثلوجة الآيسكريم...، وتلك الانفتاحات المائية المنبسطة على الشواطئ الزرقاء، حين كان الدانوب الأزرق حلماً في قصة، والريفيرا خيالاً في الخاطر، وأزيز الطائرات جديداً يطرق المسامع...، والطفلة تتعلَّق بثوب أمِّها، وما تلبث أن تحمل الهمَّ فوق كتفيها بجوار سير حقيبتها الصغيرة التي لم تكن تتورَّع عن ضمِّها إلى صدرها خشيةَ أن يتسلَّل جواز سفرها أو نقودها إلى خارجها وعندئذ أين المفرُّ من ضياع الدروب؟...
وللسَّفر اعتياديته التي لم تعد تداعب الخاطر بتلك الأحلام، ولا بذلك الزَّخم... بل غدا مثل الكابوس بعد أن تعرَّفت تلك الرَّاحلة في تفاصيل الأحياء والمدن، وفي مخابىء السَّفر، إذ نقشتها فوق الورق ولم تكتفِ بذلك فوشمتها بالحروف، وبَصَمَتها تحت كفِّ قدميها، وهي تلهث كي تقتات من السَّفر تلك الفوائد الخمس التي دلَّها إليها الشَّاعر العربي بمثل ما وضع بين يديها فَرَسه... بمثل ما أجرى أمامها الماء فقال لها: «سافر، إنْ سالَ طابَ وإنْ لم يجرِ لم يطب» لأنَّ السَّفر كالماء...
لكنَّ السَّفر لم يعدْ للفوائد الخمس... إنَّه يقدِّم الخمس والعشر والمائة والألف...
السَّفر الوجه الآخر للتَّفاصيل التي لم تُرَ، وللمخابىء التي لم تُكتَشَفْ...
وبقدر براءة ما كانت عليه التَّفاصيل والمخابىء...
بقدر ما هي عليه تكون المخاوف والمحاذير...
حتى الإنسان تَمَاثَل الآن بالشَّارع، والكهف، والدهاليز، والمخابىء، وتحت المقاعد، والطاولات، وداخل الملفات، والأجهزة الصغيرة التي لا يدري ما تُخبِّئه عنه، ولا ما ترسمه له، ولا ما سوف تواجهه به...
ولم تعدْ اليد تُطبِق على الحقيبة خوف تسرُّب جواز السَّفر أو النقود وضياعها... بل غدا الخوف على الإنسان ذاته ومنه، فأيُّ اليدين يمكن أن تُطبقا عليه، وأيُّ حُضن الأمان الذي يمكن أن يركن إليه سوى صدر مدينته... ورائحة شوارعها... ودفء أهلها؟!...
و... أَيمكن أن تُستبدل رائحة السَّفر برائحة الاستقرار؟
ويكون لها وهجها؟، وخيالاتها، وأحلامها؟ وغبار محطاتها؟ وعبق الحنين إليها؟!.
وأَيمكن أن تبقى؟... ولا ترحل أبداً؟...
ابقْ... فلك دفءٌ لا يُشَتِّي أبداً...
ولك مأوى... لا تضيع فيه...
هو السكن... وفيه الأمان من شتات الدُّروب...!!
|