الإنتاج العلمي والبحوث النظرية والعلمية التي تلفظها المطابع وتوزعها دور النشر بالمئات والآلاف كالماء في عدّة وجوه من التشبيه البلاغي، فمنه ما يُستخرج من باطن الأرض عذباً سائغاً للشاربين، أو يجري في الأنهار ليسقي الأرض فتنبت مقومات الحياة للإنسان والحيوان والجماد، وتتعهدها بالسقاية والرعاية وغير ذلك من عناصر الحياة التي أودعها الخالق في الماء، ومنه ما هو آسن أو مالح أجاج راكد لا يتأثر، فكيف يؤثر في غيره.
والمصنفات العلمية اليوم، منها ما يطير خبره بين طلبة العلم فيتسابقون إلى اقتنائه تسابق العطشى إلى مناهل الماء العذب، فيتدارسونه وينهلون من مورده ويعلّون، وتلح عليهم الأمانة العلمية أن يسجلوا ملحوظاتهم وأفكارهم ومرئياتهم حول هذا الإنتاج الذي بهرهم وأخذ ألباب أفكارهم، ومنها مالا يتعدى قدم صاحبه وظله في رابعة النهار، ومعيار هذه الحركة أو الجمود قيمة المادة العلمية التي أودعها المؤلف بين دفتي مؤلفه. ومعجم مصنفات الحنابلة «من وفيات 241 ـ1420هـ» للدكتور الأستاذ عبدالله بن محمد الطريقي من النوع الأول، ورغم ما فيه من نقص الأعمال البشرية إلا أنه ملأ فراغاً كبيراً وسد ثغرة عريضة كان كثير من طلبة العلم يتصيدون في فنائها الواسع الطويل مصنفات علماء الحنابلة ويبحثون عنها ليتزودوا بمادتها في بحوثهم الأكاديمية وغير الأكاديمية.
والدكتور عبدالله الطريقي قد قدّم خدمة جليلة لطلبة العلم، وأضاف هذا الإنتاج العلمي الجديد إلى ما سبقه في هذا الميدان، وقد قرأت معظم مادة المعجم وتتبعت منهجه مما يشفع لي في الحكم له أو عليه وعرفت صاحبه قبل أن أقرأ معجمه وغيره من إنتاجه العلمي، وقد علمني كثيراً وإن كنت معلمه في معهد الزلفي العلمي في العامين الدراسيين 85 1386ه، علمني مع زملائه في المعهد أن أضاعف اجتهادي في التحصيل العلمي، وأن أغتنم الرغبة الأكيدة والملحة عند كل واحد منهم، فقد كانوا نخبة من الطلاب قطعت شوطاً كبيراً في مسيرتها العلمية، وحصدت اليوم ما زرعت على أرض الجد والإخلاص.
ولقد كان الدكتور عبدالله حريصاً على التزود بالعلوم على اختلاف أنواعها، وطالما انتظرنا منه بفارغ من الصبر أمثال هذا المعجم وأكثر.وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فقد ذهبت إلى مدينة الزلفي معلماً، وأمام جهابذة رجالها وعلمائها ومفكريها جلست تلميذاً، فأضفت إلى رصيدي من العلم والآداب وخصال الكرم والمروءة والسماحة وغيرها من الأخلاق الحميدة الشيء الكثير، فلن أنسى أبداً ما تعلمته في مجالس مشايخهم وعلمائهم وذوي التجارب منهم، ولولا خشية الإطالة في الاستطراد لسطرت الجم الغفير من الخصال الحميدة والمواقف المشرفة لهذه المدينة ورجالها؛ ولنجبر القلم على العودة إلى الموضوع.
لقد قرأت ما كتبه الأستاذ عبدالله بن محمد الشمراني في الصفحة السادسة والثلاثين من العدد 10843 من جريدة الجزيرة وسماه نقداً وإن كان أقرب إلى الملحوظات، لقد كان الأستاذ الشمراني كاتباً ملتزماً بآداب الكتابة والتواصل بين طلبة العلم، ولا أدل على ذلك من المعاني اللطيفة والدعوات الصادقة الصادرة من القلب، والأعذار المقبولة التي حملتها كلمات الاحترام والتقدير لمجهود الدكتور الطريقي، وإهدائه تلك الملحوظات القيمة التي لا يعثر عليها إلا من سار على الطريق نفسه، من أمثال قوله: «وما سأذكره هنا ليس قدحاً في هذا العمل بل هو من باب التعاون على البر والتقوى، ومما يثري موضوع الكتاب ويفيد الباحث في الطبعات اللاحقة إن شاء الله». إنه التعاون بين طلبة العلم، وتواضع العلماء من أمثال الأستاذ الشمراني، وفي ظل هذا التواضع والاحترام أهدي بعض ملحوظاتي ومنها:
1- أضم صوتي إلى صوت الأستاذ عبدالله الشمراني في حكمه على المعجم بأنه كتاب موسوعي استنفذ من الدكتور الطريقي جهداً ووقتا كبيرين وأنه وفر للباحثين والمحققين الكثير من الجهد والوقت، وأن ملاحظاته كما قال بتواضع وأدب جم: ملاحظات يسيرة إذا قورنت بكامل المشروع، ولا تقلل من القيمة العلمية لهذا الجهد الكبير.
2- آمل استجابة الدكتور عبدالله الطريقي لطلب الأستاذ الشمراني بأن يدون في الطبعة الثانية تراجم ومصنفات العلماء الذين بين نهاية تاريخ المعجم والشروع في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات، وأظن هذا في حسبان الدكتور عبدالله.
3- أخالف الأستاذ عبدالله الشمراني في أن الاستمرار في بحثه من العبث، بل أجزم أنه سيأتي بما لم يأت به الشيخ بكر أبو زيد والدكتور عبدالله الطريقي والدكتور عبدالرحمن العثيمين ومن سبقهم، فلكل منهجه وإضافاته إلى المادة العلمية «محور البحث» في القديم والحديث، وأعتقد أن هذا من داء طلب المثالية الذي طالما وقف حجر عثرة في طريق الإنتاج العلمي.
4- على الدكتور الطريقي أن يكون على علم ودراية بما أشار إليه الأستاذ الشمراني من طباعة الكتب المخطوطة، لكن كفاه عذراً أن تكون قليلة جداً بين العشرات من المخطوطات والمئات من المراجع والمصنفات.
5- ألتمس للدكتور الطريقي بعض العذر في نسبة كتاب «الأباطيل» للجوزقاني ما دام قد سار على خطى الشيخ الألباني والدكتور فؤاد سزكين.
وذلك على منهج الأستاذ الشمراني نفسه في التماسه العذر في متابعة الدكتور الطريقي للشيخ البسام حول كتاب «رفع الإشكال» للإمام المحدث سليمان بن عبدالله آل الشيخ، وأقدر للأستاذ تصحيح هذا الخطأ الذي وقع فيه أمثال الألباني وسزكين، كما أقدّر له ذكر ما فات الدكتور الطريقي من بعض المصنفات، وإن كانت قليلة في بحر واسع عميق من المصنفات والمصادر.
6- ملحوظات الأستاذ الشمراني حول الترقيم والترتيب الأبجدي وجيهة ومفيدة، ولعلها تجد طريقها في الطبعات القادمة.
7- ما ذكره الأستاذ الشمراني حول ترجمة الشيخ صالح بن غصون رحمه الله فيه نظر وإن سلمنا بتحفظه على إطلاق اسم المصنف، ذلك لأن للشيخ مع ما ذكر الدكتور الطريقي فتاوى وأحكاماً شرعية وخطبا للجمعة ومحاضرات كثيرة، كما أن له حواشي على «زاد المستقنع» مقرر الفقه في المعاهد العلمية لا تقل في كمها وكيفها عن المصنفات.وقد كنت أحد تلاميذه في معهد شقراء العلمي، وكنا لا نستطيع أن نسجل جميع الدرر والفوائد الجمة التي يضيفها إلى النص الأصلي، وبذا وبغيره من الأنشطة العلمية لا نستكثر أن يفرد له صفحة ونصف الصفحة بين مئات الصفحات في تراجم علماء الحنابلة، و إن لم تطبع مصنفاته.وبالمناسبة: فإن الأمل والرجاء معقودان بعدالله بأولاده وتلاميذه في جمع هذه المادة العلمية وطبعها ليستفيد منها طلبة العلم.
8- لما كان الحكم فرعا للتصور كان من الخطأ الفادح الحكم من قبل بعض القراء على هذا الإنتاج العلمي القيم من خلال نافذة ضيقة تلوح من خلالها بعض الملحوظات والاستدراكات البسيطة إذا قورنت بإيجابيات هذا العمل والمجهود الذي بذل فيه.وأخيراً، فإن ملحوظات الأستاذ الشمراني تستحق الشكر والتقدير منا قراءً ومن الدكتور الطريقي، والذي يقرأ هذه الملحوظات يعلم علم اليقين أنها نتيجة بحث متواصل وتحقيق علمي دقيق نهجه في مشروعه الكبير «معجم الأصحاب» وأنه دونها من باب التعاون وسد الثغرات في هذا العمل العلمي الجليل، وهكذا يجب أن يسلك العلماء هذا المسلك، وبهذا العمل وأمثاله زادت القيمة العلمية لهذا المعجم، ولذا تسابق طلبة العلم على اقتنائه، وتباشروا بطبعه.
وكما لا يستغرب من عالم كالدكتور عبدالله الطريقي أن يصنف هذا وأكثر لا يستغرب من الأستاذ عبدالله الشمراني الذي قارب الانتهاء من مشروعه العلمي المماثل أن يقف على هذه الملحوظات ويهديها بأدب العلماء إلى زميله وأخيه الدكتور عبدالله الطريقي، وينوه بأهمية هذا العمل ومكانته بين العلماء وطلبة العلم، فجزاهما الله خير الجزاء، وجعل ذلك في موازين حسناتهما، والله ولي التوفيق.
د. حمد بن عبدالله المنصور جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |