إعداد: عبد الحفيظ الشمري
يمضي الروائي والشاعر ابراهيم شحبي في تقديم عمله الروائي الجديد الذي صدر عن نادي القصة؛ التابع للجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالرياض هذا العام 1423هـ الموافق 2002م، وأكثرنا يعرف ان هذه الرواية للشحبي قد تم نشرها قبل أعوام عبر الملحق الثقافي بالجزيرة على حلقات؛ فلم يكن هناك - فيما يبدو لنا - أي تغيير قد طرأ على سير العمل، ولم نلمح أي تحول قد عمد إليه الكاتب في تقديمه لهذه الهالات الشاكية في حكاية هذا الرجل المعذب من فرط وساوسه، وتضعضع شخصيته أمام الخطب والنوائب.
الرواية سيل من أحزان تغريد، ومولود:
فكرة الرواية تتوهج في أول صفحاتها؛ ليحاول الكاتب شحبي ان يقدم لنا ملامح المعاناة المألوفة لهؤلاء البسطاء الذين يعانون من آلام المواجهة مع الواقع القبلي الذي جاء معكوساً، وعلى هيئة مفارقة غريبة تصور سكان المدينة (الطائف) وهم أشد تمسكاً بالعادات القبلية فيما نراه يصور الريف الجنوبي وكأنه لا يعبأ بأمر هذه المعاناة التي تتجاذب الزوجين.
معاناة مولود لا تعدو كونها معاناة اجتماعية عادية تمر على الكثير من المجتمعات إلا أنه حاول التشبث بها ومدها ببعض المحفزات، والمشهيات لعله يخرج هذه المعاناة من تماديها في المألوف الحكائي.
تتحول في خضم هذا السرد المفصل لعوالم مأساة هذا الرجل وامرأته تغريد من لغة الراوي الخارجي إلى لغة الراوي البطل (مولود) في (أول الصفحة 33 من الرواية) حينما استهلها بقوله: (قال مولود..) ففي اعتقادي ان في هذا الخطاب تحولاً غير مبرر.. إذ لم يكن في الأساس ما ينبئ عن نقلة نوعية تقتضي هذا التحول في سياق السرد؛ لكن الكاتب أصر عليه في خضم عرضه للأحداث، وتصويره للمواقف.
سيرة ذاتية تطل
برأسها بين الشخوص:
في الفصل الثاني من الرواية يسند القول إلى الراوي الخارجي من جديد، ويحاول الكاتب شحبي ان يرمي بأثقال السرد على عاتق السيرة الذاتية التي لا تحتاج إلا قليلاً من اللغة، وكثيراً من الاستدعاء الذهني لكل شاردة وواردة من القول الذي يؤدي إلى فهم حكائية هذا الرجل الذي تتقاذفه الغربة، والتيه والضياع والبحث عن الذات الموغلة في تواريها عن الممكن.
ويتفرد الراوي في شرح معاناة مولود في رحلته العملية إلى أرض الجزائر ليحاول تلمس الأحداث الموائمة للسرد، لكن الفصل الثاني يهيل على الرحلة في سبيل الرزق شيء من العادية والمألوف رغم محاولته بث الروح في بعض الحكايات هنا وهناك مثل مهاتفة تغريد له، ومحاولته استعراض بعض الفوارق الاجتماعية بين البلدين السعودية والجزائر فيما يتعلق بالعادات والتقاليد، وحالة المغتربين والمغتربات، ووصف الأحداث السياسية التي جاءت مصادفة للراوي.
في محاولة تناهض فكرة الإطالة قرر وبشكل مفاجئ ان يقتضب في مسألة الزمن؛ ليسعى إلى التقشف في سردياته آلام الغربة خارج حدود الوطن، ويختصر السنوات التي قد تصل لأربعة أعوام بإشارات فقط دون تدوين أي أحداث خارجة عن المألوف إلا أننا أحسسنا بأنه قد خرج عن هذه النمطية إلى ما قد يحسبه أنه محاولة لاستمالة القارئ نحو مواطن التأمل والحدس والتخمين في قضية (تغريد) عندما عادت إلى أهله ليحاول الكاتب شحبي إشراك القارئ في تصوراته وتأملاته لهذه الوقائع والأحداث التي عصفت بالرجل وزوجته.
أزعم في هذا السياق أنه من الأجدى لو بدأ الكاتب روايته من الفصل الثالث ليجعل كل ما سبق في الفصلين الأول والثاني هو من قبيل الاسترجاع المتوامض.. فهي طريقة فنية مألوفة في السرد الروائي يستعيد الكاتب من خلالها الأحداث الجانبية ويسجلها بطريقة تفيد النص، وتحقق للعمل بعده الفني المطلوب.
* تشظي الحالة.. البكاء
على الأنثى..
يواصل الراوي سرد تفاصيل رحلة مولود خلف المرأة.. تلك التي أضناه حبها رغم ما شابه من الغموض وعدم الاتساق، حتى أغرقه الولع بها ليظل رغم هذه المثبطات، والعقبات يواصل رحلة المجهول نحو عوالمها المتشعبة؛ تلك التي تأتي على شكل حكايات تأخذ في البداية شكل اللغز ولا تلبث إلا وتتحول إلى واقع مكشوف كحالة (تغريد) عندما تاهت في جبال السروات في ظروف غامضة جدا سرعان ما بانت - بعد سني سجن (مولود) - امرأة سوية تزوجت بآخر وأنجبت له أطفالاً حتى زادت من لواعجه مرة أخرى؛ ليأخذ بالهذيان من جديد محاولاً تأزيم الأمر ليظل القارئ بقربه ينتظر نهاية هذا الرجل الذي هده العناء وراء أنثى شطرت القبيلة إلى قسمين متناحرين يكيل كل قسم للآخر صنوف اللوم على مآل هذين المخلوقين العجيبين، ولم تكتف المرأة بشطر القبيلة.. بل شطرت قلبه أيضا برفضها له، وادعائها الجنون، وعلاقتها بالخفاء وأهله؛ لنقف في منعطف السرد على هذه الحقيقة التي تصور حالة رجل أنهكه العناء بحثاً عن المرأة، وامرأة هدها العذاب جراء خروجها عن نمط السائد والمألوف.
تتجه الرواية في فصلها الأخير نحو تحقيق معادلات القول، وإشارات الفعل في تماد مفتعل من الكاتب ان يطيل أمد سرد هذه الأحداث التي عصفت بمولود وتغريد؛ حتى انتهت بموت الأول على سلم بيت أم تغريد ليكتب البطل في حمى احتضاره نازفا وصيته الشعرية التي يعلن فيها حبه للمرأة التي تلذذت بتعذيبه على نحو مؤذٍ، ويذكرنا هذا الموقف بقصة مقتل كليب على يد جساس في سيرة المهلهل وقبيلته، وهو التقاط مهم قدمه الكاتب لتقاطع حالتي قبيلتي تغريد والمهلهل.
فبعد هذا التحول، وبعد موت البطل شرحت الحالة من جديد على لسان تغريد في محاولة لتقديم ومضات متسارعة تقدم كامل الحكاية من جديد.. ليتأكد لنا في هذا السياق ضرورة الانتباه إلى ان هناك حشوا وإضافة في الرواية يتمثل في الفصول الثلاثة الأولى من العمل .. فبعد موته لم تجد سوى الذكريات الجميلة والمرة.. تلك التي تجسدت برحلتهما إلى الجزائر معاً، وما تم فيها من تداخلات، وتهيؤات، وأسرار ظلت المرأة محافظة عليها حتى النهاية لتروي ماتراه مناسباً في ظل غيابه الأبدي.
الرواية تدخل نفق
الهذيان المطول:
تدخل الرواية في صفحاتها الأخيرة نفق الهذيانات المطولة.. تلك التي لا تضيف شيئا جديداً للعمل وإنما من قبيل تحصيل الحاصل؛
فموت مولود أعطى لتغريد فرصة الحديث بما تريد دون ان يكون هناك تدخل منه أو من أي طرف آخر.. حتى ذلك الصوت الخفي داخل العمل والذي اسماه (القرين) ليحاول ما وسعته المحاولة ان يوقظ لدى القارئ صورة مولود.. تلك التي تقمصها هذا الخيال الخفي في محاولة منه ان يقتص من أعداء مولود.. من أمثال طويل، وعبسي وآخرين لم يستطع الرجل الاقتصاص منهم في حياته ليحاول فعل ذلك بعد مماته.
وفي سياق هذا الإسهاب المتواصل في الصفحات الأخيرة يحاول الكاتب نقد الواقع اليومي على لسان الشبح صهبان.. هذا المارد الذي خرج من مخابئه الخفية ليحقق للمرأة بعضاً من آمالها، وأحلامها التي عجزت عن تحقيقها على أرض الواقع.. ليكون هذا المشهد الخيالي فرصة لتمرير النقد الذي قدمه الكاتب على لسان الراوي الذي أتقن اللعبة،
وتفنن في تقديمها إلى القارئ لتبدو الحكاية بأكملها على هيئة خبر مقتضب في صحيفة يومية «عن فتاة من الطائف تتزوج من جني.. خرجت معه وتركت أهلها، فماتت أمها حزناً، وجن أخوها؛ فظل يهيم في الشوارع حتى مات..
وتمزقت القبيلة التي حاولت منعها من الخروج معه..» (الرواية ص 921).
إشارة
* أنثى تشطر القبيلة (رواية)
* إبراهيم شحبي .
* من إصدارات نادي القصة بجمعية الثقافة والفنون بالرياض - 1423ه، 2002م .
* تقع الرواية في نحو (220صفحة) من القطع العادي .
* لوحة الغلاف للفنان السعودي ناصر ا لموسى .
|