1/1/3 - قبل عشرين سنة أو تزيد، حبَّب إليَّ مسؤول تعليمي زيارة «مزرعة نموذجية»، تتبع لمؤسسته وكلمة «النمذجة»، حفزتني على قبول الزيارة، وما كنت أدري أنها تعني مزرعة التدريب الطلابي، لتطبيق ما يتعلمونه في الفصول والمعامل والمختبرات من دروس نظرية. لقد وجدتها دون المؤمل فكل مدرب له أسلوبه، وكل متدرب له رأيه وطريقته. والبذرة والشجرة تتعرضان لممارسات متناقضة، مما يؤدي إلى تعثر النمو، واصفرار الأوراق، وقد تتحول الأزواج البهيجة إلى هشيم تذروه الرياح.
وإذا كانت التجارب التطبيقية يجريها الطلاب الزراعيون على نوابت الأرض، ويجريها طلاب الطب على جثث الأموات، فإن النقاد يلتمسون عملاً سردياً أو شعرياً، ليجروا عليه تجاربهم، مستدعين كل نظريات التلقي، وكل مستويات القراءة، وكل آليات النقد ومناهجه، وقد يتعالقون مع غيرهم فلا يكون انتقاء لمدروس، ولا تجويد لدراسة. ولعلنا نستذكر رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وكيف اعتورتها أقلام النقاد، وحمَّلتها ما لا تحتمل من فرضيات، حول أركان الرواية، ولغتها، وأسلوبها، ومقاصدها، تحدوهم الرغبة في تجريب المذاهب والآليات التي درسوها، ولم يفهموها، أو قلدوها، ولم يحسنوا التقليد. مع أن حقول التجريب لا تكون بالضرورة على شيء من التميز وإن تصور البعض رواية الطيب فتحاً مبيناً في عالم الإبداع الروائي.
وبيان المثقفين السعوديين «على أي أساس نتعايش»، أخذ المصير نفسه، بحيث امتدت إليه أيدٍ كثيرة، سلفية متشددة، وأخرى مستنيرة، وليبرالية متحررة، وحداثية متطرفة، وتنويرية ظلامية. وطبقت في قراءته مذاهب ومناهج وآليات متعددة، وتهافتت عليه المنصفون والمقتدرون والنطائح والمترديات، ومن استهوته مناهج الغرب. ولما يكن الدافع للأكثرين منهم استبانة الحق، ولا الوصول إلى النتائج، وإنما هي رغبة في اكتشاف الذات من خلال الآخر، مع أن بعض النفوس لا تخلو من دخن الضغينة، والمتابع النابه يعرف ذلك من لحن القول ولست بصدد الدفاع ولا المشايلة، وإنما هي الرغبة في تشخيص المواقف والوقوف على أزمة الحوار الداخلي.
2/1/3 - فناقد عول على «النسقيَّة»، وعلاماتها الثقافية، مكرراً مصطلح «النسقية»، بشكل ممل ممثل: لغة النسق، والخلفية النسقية، والتصور النسقي والكارثة النسقية، والبعد النسقي، والحيلة النسقية، والوقوع في النسقية، والشعار النسقي، وأساليب النسق، والمضمر النسقي، واللحظة النسقية، وألاعيب النسق، ومع ذلك فهو الأكثر إنصافاً وتروياً «الرياض 11، 18/3/1423هـ»، والنسقية «السوسيرية»، التي حولها المريدون إلى «بنيوية»، قفزت بقدرة قادر من «اللغة»، إلى «الثقافة»، وهي قد قفزت من «الفلسفة»، إلى «الاجتماع»، وقد تقفز يوماً ما إلى مصطلح رديف. وناقد آخر تملق «التحويلية»، موغلاً في الإدانة اللغوية والمقصدية ناسفاً دعوى النسقية الوطن «6/3/1423هـ»، و«الرياض 25/3/1423هـ»، وثالث أمعن في القذف الصريح والاتهام السافر، ورابع اكتشف أن الحداثة مجتثة من فوق الأرض، وأنها لا تملك عمقاً شعبياً، وأن مبدأ الحوار مرفوض سلفياً «الحياة 2/3/1423هـ»، وثُبَاتٌ آخرون، لهم نوازعهم الفكرية أو السياسية، المتشددة أو المتسامحة، المتسائلة أو المدينة. كل أولئك ومثلهم معهم أوجفوا بأقلامهم، وكأن البيان قاضي «قم»، الذي عزله حب الوالي للسجع، حيث قال: «أيها القاضي بقم قد عزلناك، فقم»، فكتب للخليفة مقسماً بالله أن الوالي لم يعزله إلا حباً للسجع. والآخذون بعصم الخاوي من مذاهب الغرب يكرهون النصوص على أن تستجيب لمتطلبات آلياتهم ومناهجهم، ولو أن هذا البيان صدر في ضجة «البنيوية»، لأخذوه بآلياتها، ولو أنه تأخر حتى يتجاوز الغربيون مذهباً من المذاهب لما كان بد من أخذ البيان بما فرغ منه الغربيون. وما ترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب مؤكدين القابلية للتبعية، حتى البيان جاء في أعقاب البيان الغربي، ويا ليت قومي استبدوا مرة واحدة «إنما العاجز من لا يستبد».
ومثلما أن مزرعة التدريب لم تكن أفضل المزارع، وأن جثة التشريح ليست بأفضل الجثث، وأن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، لم تكن أفضل الإبداعات السردية فإن «بيان المثقفين»، لم يكن أفضل البيانات، كما انه في الوقت نفسه ليس بأسوئها، ولا يعيبه ألا يكون كذلك، فكل عالم ومفكر، يؤخذ من كلامه، ويترك إلا من لا ينطق عن الهوى. وما من مجتهد أفضى بقول، إلا تمنى في الغد أنه تريث، وأعاد النظر فيما قال، ويأبى الله إلا أن يتم كتابه «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً»، والتهافت على قراءة البيان ليس مؤشراً على قوته، ولا على تأثيره، ولا على أهميته. وأثره منحصر في كشفه عن خلاف مستحر، داخل المنظومة الواحدة، وفي الشك في مشروعيته، وفي فراغنا، وكثرة لغطنا، الأمر الذي ذكرني بمقولة «وليم بلجريف»،: «الواقع أن كل شيء كان عربياً تماما، كلام كثير وفعل قليل»، وسط الجزيرة العربية وشرقها ص 264 جزء 1». والذين كتبوه متعجلين أو متريثين، وأمروه على الموقعين، لم يكن أحد منهم يتوقع أن تعتوره سهام النقد من كل جانب، ولو أن المتصدرين لإعداده توقعوا بعض هذا الاهتمام لحبروه تحبيراً، وسدوا المنافذ على كل مجرب، والبيان وما أثاره من ردود فعل لا يعد ظاهرة صحية، ولا فتحا مبيناً، وإنما المسألة مجرد تداعيات متفاوتة، تحال إلى أزمة الحوار التي أشرت إليه في مقال سابق «اليمامة 6/3/1423هـ»، ووجدها البعض فرصة لطنطنة الفارغة.
3/1/3 - لقد فتح «البيان»، شهية الكتاب، ونبه المتربصين لخصومهم وجر أقلاماً «ديناميتية»، وأخرى مجازفة، أوغلت في الاتهام والتشفي، وكأن الموقعين من أصحاب السوابق. ومثلما أن الموقعين شعوباً وقبائل، فإن المتصدين مثل ذلك، ولو كان الموقعون والمتصدون من «صبغة واحدة»، لمر البيان بهدوء، كما مر سلفه الذي وقعه مائة ونيف من أدباء البلاد وإعلامييها. وبعض من تصدوا للبيان لم يتورعوا عن النيل من بعض الموقعين، وتصفية الحسابات معهم، على الرغم من اختلاف مشاربهم وثقافاتهم وهمومهم ومواقفهم من الأشياء والأناسي. وليس من أدبيات الاختلاف أن نمس أحداً من الموقعين بعينه أو بصفة تعينه، ولا أن نوجه الاتهام لسائرهم «الشرق الأوسط 25/5/2002م»، وإن انطوى البيان على أخطاء في الأفكار أو في الأسلوب، أو قل قصر في استيفاء ما يجب استيفاؤه من القضايا، أو جاء مناقضاً لفكر الضالعين في إعداده. إن على المداخلين أن يفترضوا حسن النوايا، وسلامة المقاصد، وأن يحيلوا التقصير إلى خطأ الاجتهاد المأجور، وعليهم أن يعرفوا أن العصمة غير متأتية لأحد من البشر، ولو أن أحداً من المفككين فعل مثل فعلهم، لكانت له أخطاؤه المتوقعة، ومن نقب وجد، ومن نوقش الحساب عذب. والملفت للنظر ذلك الأسلوب «البوليسي»، المعتمد على النبش، واستدعاء الملفات، وتقصي السير الذاتية، والحديث عن ماضي البعض وسلفيته المنغلقة، وتناقض مقاصد البيان مع تاريخية المتحدث، فيما لم يعرج أحد على مشروعية الفعل.
والبيان مثار الجدل جاء في أربع عشرة صفحة، ووقعه مائة واربع وسبعون شخصية سعودية، فيهم العلماء: الشرعيون، الطبيعيون، القضاة، المحامون، المفتون، الدعاة، الاكاديميون، الأدباء، الصحفيون، رجال الأعمال، النساء والأطباء، وما دون ذلك. واشتملت صفحاته على أشواط دلالية استوعبت: ممارسات إسرائيل، ودعم أمريكا، وتلخيص بيان المثقفين الأمريكيين «على أساس نقاتل»، وطلب المقاطعة، والتحول عن الولاء الفكري والتبعية، والمطالبة بتأسيس أجواء تفاهم مشترك، يقوم على تفهم «للحوار»، و«استشعار القيم والأسس»، و«تداعيات أحداث سبتمبر»، و«الموقف من أمريكا»، و«الإسلام والعلمانية»، و«الحرب العادلة والارهاب»، وكل فقرة بمثابة خاطرة موجزة تحدد: المفهوم، الموقف، أسلوب الأداء، وعلى الرغم من التركيبة «عراب البيان»، كما يقول أحد القراء، وقد تصدت للبيان سهام الباحثين عن الحق، واللاهثين وراء الوقيعة، وتنفس من خلاله الغيورون والوصوليون والصادقون والمدخولون، وذرعته أقلام نصائحية، وأخرى فضائحية.
وعند استعراض المفهوم والمشروعية والتصديات يجب الا نحيل على جاهزيات الأحكام، وألا نشق عما في الصدور، وألا نفترض النوايا السيئة والأهداف الدنيئة، وألا نمارس تصفية الحسابات. فالبيان موقع من عشرات العلماء، القضاة، الخطباء، والوعاظ والمفتين الأفاضل، والأدباء المتمكنين، والمفكرين المدركين، والأكاديمين المجربين، ممن نجلِّهم، ونثمن إسهاماتهم، ونقدِّر مواقعهم، ولا نزكيهم على الله، والإيغال في النيل منهم لا يقل خطورة عن الإسراف في الثناء المجازف، والتزكية المطلقة، وإذا سقط البيان بكل المقاييس، فلا يكون بالضرورة سقوطا لمن وقعه. وعلى القارئ الناصح لله ولرسوله وللمؤمنين أن يتقي الله فيما يأتي ويذر، فالقول الجزاف يمس رجالات أوفياء لأمتهم ولقادتهم ولدينهم. وأجزم أنه لو كانت هناك «محكمة آداب»، وتقدم المتهمون إليها لأعوزت المجازفين الحجة. وصحافتنا أحوج ما تكون إلى الأناة والتدبر كيلا تتحول إلى صحف فضائحية، يتسلى بها القارئ، ولايعول عليها.
4/1/3 - لقد عُرِضَ عليَّ البيان في لحظاته الأخيرة، وطلب مني التوقيع عليه، فاعتذرت لأسباب كثيرة لعل من أهمها: أنني أعد كل مقال سياسي أكتبه بياناً يعبر عن وجهة نظري، وقد يبلغ من التأثير ما لا يبلغه البيان. وأن هناك من سبق إلى اصدار بيانات مماثلة، ولست أقبل التبعية، متى أمكنت المبادرة، وأنني لا أرضى لنفسي الالتفاف بعباءة الآخرين، وإن بادلتهم الاحترام، وشاركتهم الهم، وأنني لا أقبل الانضمام للركب في اللحظات الأخيرة، فالبيان أعد وطبع دون علم مني، ودون استجلاء لوجهة نظري، حول الطريقة والموضوع واللغة والأسلوب والمشروعية. وتمنعي يحال إلى الاختلاف حول الفعل الإجرائي، مع أن هناك تحفظا حول المبدأ وآخر حول الإجراء، وإن كان الهم الذي يساور الموقعين يساورني، والأذية التي تمسهم من جنايات الغرب تمسني، والإحساس الدائم في التحرف لمواجهة أجدى وأهدى قائماً ما قامت مكائد الغرب، غير أني لا أرى التعبير عن وجهة نظري بهذا الأسلوب، ومن ثم لم أوقع، ولم يسألني أحد لماذا لم أوقع. ولما أزل أتمنى لهذا البيان تأدية الغرض المنشود منه، ولا سيما في ظروف الحملات الإعلامية الجائرة التي طالت الإسلام والمسلمين، ونالت من الإنسان السعودي ومناهج التعليم في البلاد.
|