Monday 10th June,200210847العددالأثنين 29 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

محمد بن عساكر.. لم يمت من كان مثلك محمد بن عساكر.. لم يمت من كان مثلك



كم مات قوم وما ماتت مكارمهم
ومات قوم وهم في الناس أحياء

تكاد أناملي تهمي دموعاً وأنا أكتب عن أبي عبدالله الرجل العظيم الذي استطاع أن يعيش بأسلوب متفرد في عالم نمطي متكرر، استطاع أن يستقل بطريقته وسط تيار مادي جارف يقلب الناس على نماذج مملولة.
وإن كان للعظمة أسرار فسر عظمة هذا الإنسان ومناط رجولته - رحمه الله - أنه استطاع أن يوازن بين عناصر ثلاثة هي: الناس، الوقت، والمال، وهي- لو تأملنا- رموز المعادلة الصعبة التي يخفق في حلها أكثر الناس، وهي المزيج المتعسر وزن نسبه إلا عند الموفقين.أما الناس: فقد قلت لبعض اخواني تعليقاً على علاقات أبي عبدالله: إنه أجدر بمفخرة طرفة بن العبد:


رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطراف الممدد

ففقيدنا عند بني غبراء «الفقراء» معروف مألوف هولهم دوحة عطاء، وروضة في وسط الرمضاء، لا يشعرون في حضرته بضيم الزمان، بل يملأهم رضاً وامناً وهم يرون ابن عساكر - بنفسه - يأخذ بأيديهم من عند الباب إلى عزيز كنفه، ويضاحكهم ويمازحهم ويسألهم عن الاخبار والاحوال..، فهم عنده اخوان اعزاء لا معاويز فقراء، يعرف حاجاتهم قبل المسألة فيعفيهم من ذل الحاجة ومرارة الاستجداء، فإذا قاموا للانصراف شيعهم إلى حيث استقبلهم..أما الوجهاء فهو من اوفاهم حظاً في الشرف والسؤدد، وحسبك برجل جمع المروءة في اطرافها، يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما :«المروءات أربع: العفاف، واصلاح الحال، وحفظ الاخوان، واعانة الجيران» فكيف برجل زاد على ذلك، بنبل المعدن، واصالة المحتد، فهو مترع الاعراق كريم الاصل وكأن الرصافي يعنيه حين قال:


وخير الناس ذو حسب قديم
قام لنفسه حسباً جديداً

فهو في السادة اعلاهم سؤددا، وفي الكرام اطولهم يدا، وهو مع ذلك كله دائم التبسم، جم التواضع، ميال للانس والمؤانسة.
ولو جاز لنا أن نسمي معادن الناس لقلت : إنه خلق من معدن يسمى (السخاء) فهو سخي بماله، سخي بوقته، سخي بمشاعره، سخي بجاهه فكله جود وسخاء.


فيا قبر معن كنت أول حفرة
من الأرض خطت للمكارم مضجعا

أما الوقت: فإن رأيت تجارته قلت: أنفق عمره في تحصيلها وادارتها، وإن سمعت بأسفاره أو صحبته فيها قلت : رحَّال لا يعبأ بالناس ولا محافلهم ولا بالمال ولا همومه، وإن طلبته في مواسم العبادة ومجاورة البيت قلت :ناسك متأله منقطع، لا يعرف الدنيا ولا السعي لها، ولا يأبه بالناس ولا مخالطتهم. وإن حضرت منتدياته قلت: نديم لا يمل مجالسة الافاضل ولا يملون مجالسه، فله في إدارة الوقت حنكة وشأن، فهو سيف يقطع الوقت متى شاء ولا يقطعه الوقت كما هي عادته.
أما المال: فكل ما كثر عند أغلب أهله تزيد سيطرته عليهم، ويتعبهم في الركض خلفه، ويرهق نفوسهم في تدبير شؤونه، وهو الغالب في الغالب، فلا تفتأ جهود أربابه وأوقاتهم وأفكارهم ومشاعرهم تطوف به.
غير أن الراحل العزيز تعامل معه بروح قوية، وارادة نافذة، فهذا المال الذي يشمخ بأنفه أمام ذويه، ويصوغ أخلاقهم، ويحكم عليهم بالظعن والاقامة، والرضى والغضب، هذا المال (الجبار) رأيته عبداً ذليلاً بين يدي أبي عبدالله يقطع اوصاله- ما شاءت له سخاوة نفسه- في مرضاة الله فهذه ملايين تساق- كما يساق الهدي في الحج- إلى مبرات الخير في الداخل والخارج، وتلك مثلها للمساجد، وثالثة للايتام، ورابعة للعلم وطلابه ومدارسه..هذا المال (العزيز) تشعر بهوانه إذا رأيته يبذله للاخوان والاقارب ويتحبب به للخلق وخالقهم.
هذا المال (النفور) من طالبيه، الذي يرهقهم بتصيده يخيل إليك أن أبا عبدالله يأمره فيتوافد إليه ثم يأمره بالانصراف في وجوهه فينصرف كما ينصرف الخادم من بين يدي سيده.ولقد جئت أهله معزياً فألفيت قصره كما عهدته افواجاً داخله واخرى خارجه، وألفيت مجالسه كما عرفتها حافلة بوجوه القوم ونبلاء المجتمع، ولكني انكرت شيئاً وافتقدت آخر: أما الذي انكرته فلفعة الحزن السوداء على وجوه الناس، وأما الذي افتقدته فهو أبو عبدالله زينة المجالس وتاج المحافل عليه شآبيب الرحمة.
هذه الدمعة الحارة التي صغتها احرفاً ليست نواحاً على فقيد، ولا جزعاً من قدر، ولكنها كلمة رثاء لشوامخ اخلاق تهدمت، وجملة مكارم اختفت، انها بكاء على قلعة شمائل خرت في غمضة جفن.
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
إنه - رحمه الله - صفحة تاريخ يحق لمحبيه أن يكتبوها بأحرف من ألماس، إنه شارة فخر يزهو بها المجتمع المسلم الذي أخرجه، وينبغي أن تبقى كذلك لتستنهض همة الرجال لميمون الخصال، وكريم الشمائل.
إن مقالتي تلك رسالة إلى أهله النبلاء، وانجاله النجباء: أن يحفظوا تركة الرجولة والشهامة والمجد التي تركها الظاعن العظيم.


إذا مات منا سيد قام سيد
قؤول لما قال الكرام فعول

سيقول من لا يعرفه ولا يعرفني: بالغت وأسرفت وتحدثت عن أسطورة هيامة في عالم الخيال، ولكني كتبت ما كتبت غير متردد ولا متهيب لأن شهودي على ما أقول كثير وهم عدول، سلوا - إن شئتم - مندوبي المؤسسات الخيرية، سلوا بناة المساجد ودور الايتام، سلوا السعاة على الارامل والمساكين، سلوا دور القرآن، سلوا عن مضافاته الرمضانية في مكة المكرمة، والصيفية في أبها، والربيعية في روضة خريم، كل تلكم المكارم ستبكيه اليوم وحق لها أن تبكي كبيراً عاش لغيره، عاش للافكار الكبرى والغايات العظمى، ولو كان يفتدى لافتديناه بآلاف الصغار المتمحورين على انفسهم، الطائفين حول ذواتهم، الذين يعيشون صغاراً ويموتون كذلك..ولكن عزاءنا أن اولئك العظماء الاجواد الذين نفتقدهم يفدون على من هو اعظم منهم واجود فعسى الله أن يحسن وفادة عزيزنا.
عبدالله بن عبدالعزيز المبرد

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved