من أجمل ما في «الكتابة»، ما تجري به الأقلام الجادة الرشيقة من كلماتٍ تخدم الثقافة والفكر، وتدعم مسيرة الحرف بعيداً عن الإثارة التي تستطيع لفت الأنظار، ولكنها لا تخدم الأفكار.
في جريدة المدينة الغرَّاء زاوية جميلة بعنوان «من الجعبة»، للأخ الكريم عبدالرحمن الأنصاري، طرح فيها يوم الأربعاء 17/3/1423ه خواطر حول مقالة أخي الكريم «حمد القاضي»، التي أظهر فيها حباً لا يقبل الشك للشعر وأوزانه وقوافيه، وأعلن فيها بكل وضوح تفضيله للشعر على النثر كما يفضَّل الرَّقص على المشي، ولقد دفعني الأسلوب الهادئ الهادف الذي طرح به الأستاذ عبدالرحمن الأنصاري فكرته إلى هذا التعليق، لأشكره أوَّلاً على وضوح رؤيته في «ثنائية النثر والشعر»، وعلى ثقته في ما يسطره قلمي من الشعر أو النثر، ولأقول له - ثانياً: صدقت أخا الحرف- فيما ذكرت فالقلم يفيض بما يجيش به الصدر، ولا بد من تسجيل ما يفيض به القلم تسجيلاً صادقاً، شعراً كان أم نثراً، وما أظن - كما ظنَّ أخونا حمد - أنَّ كتابة النثر تستنزف الإبداع، لأن الإحساس هو المنبع، والمنبع يزداد صفاءً كلَّما نُزح ماؤه، والقلم في مسيرته الكتابية قائم على الركض، كلَّما زاد ركضه في ميادين الكلمة، أشرقت حروفه، وزاد عطاؤه، واستقام عودُه، وإني لأذكر هنا ما قاله شيخ الأدباء الراحل علي الطنطاوي رحمه الله تصويراً لهذا المعنى حيث قال: إنَّ القلم إذا هجره صاحبه يَحْرِنُ كما تَحْرِنُ الدابَّة، وهو بذلك يدعو إلى الركض بالقلم، ما دام نبع الإحساس ثَرَّاً، وما دام الفكر متدفقاً وإنما يقبح بالأديب، «شاعراً كان أم ناثراً»، أنْ يَلْوي عنان طبيعته فيجبرها على ما لا تريد، ويستنطقها قَسْراً وهي لا تريد إلاَّ السكوت.
وهناك جانب آخر للموضوع، ألا وهو جانب ما نحمل من الأفكار وما يمرُّ بنا من المواقف اليومية في حياتنا بصفةٍ عامة ممَّا ينشغل به الذهن، وتتفاعل معه النفس ونحتاج إلى الحديث عنه، وهو ما لا يمكن أن يتأتى للشعر أن يصوِّره دائماً، فليس أمامنا إلاَّ النَّثر، وما أدراك ما النَّثر، كلمات معبِّرة، وجملٌ متناسقة تحملنا إذا كتبها كاتب مجيد، إلى عوالم المتعة والفائدة سواء بسواء، كما يصنع الشعر بصفة عامة ، ويبقى للشعر ما لا ننكره جميعاً، الأثر الأقوى، والوَقْع الأعمق، لما يكتنفه من وَهَج المشاعر الذي يشعل فتيل الشعر فتنطلق أضواؤه الجميلة مضيئة مكامن الإحساس والتأثُّر في نفوسنا.
نعم يا أخي عبدالرحمن هكذا يكون الشعر والنَّثر، وهذا ما أعلم علم اليقين أن أخانا - حمد القاضي- يعرفه بعمق.
وأنا أؤكد لك ولكل الإخوة والأخوات الذين كتبوا عن الموضوع كتابات تتأرجح بين الهدوء والانفعال أن أخانا حمد أراد أن يوجِّه إلى ضرورة الحذر من استنزاف الزاوية اليومية للجهد والوقت، وهو بهذا التوجيه مشكور مأجور - إن شاء الله- ولك يا أخ عبدالرحمن مني صادق التحية والتقدير.
إشارة:
قصيدتي تركض في عروقي إذا مشيتُ مِشْيَةً وئيدَهْ وإنْ ركضْتُ وقفَتْ أمامي وقوف مَنْ يُسمِعُني وعيدَهْ تُريحني تُتْعبني، وإني أَمامها في حَيْرةٍ شديدَهْ |
|