جنوب لبنان.. جنوب العرب، في داخله اختصر الصراع العربي/ الإسرائيلي موضوعاته وامتدت خطوط التماس مخترقة العواصم والمدائن، وعلى مداخله ومنها تنطلق دعوات الأمم مطالبة بسلام يشمل المنطقة لينهي صراعاً اختلطت فيه الجغرافيا بالمصالح، والعقائد بالموروثات الروحية.
فلأول مرة في تاريخ العدو الصهيوني يتم انسحابه من أرض احتلها 22 عاماً، وهو مهزوم أمام ضربات المقاومة، ذليل أمام عنفوان شعب تشتعل في حناياه حرارة الإيمان، ويستقر في ضميره أمل كبير.
إنه الجنوب، جنوب القضية العربية ولبها وساحة النزال، إنها أرض المواجهة بين مشروعين متناقضين: مشروع إسرائيل القائم على التفوق والاحتلال والقهر وصولاً إلى استسلام مفروض، ومشروع المقاومة القائم على الحق والمنطق بالإيمان والتضحيات بالدماء وإثبات قدرة الإنسان على مواجهة التكنولوجيا المتطورة وصولاً إلى الحرية وفرض منطق السلام العادل والشامل.
لن تنسى «إسرائيل» القاعدة التي عاشت عليها طويلاً، والقائلة: إن إضعاف أي طرف عربي، بخاصة في «دول الطوق» يزيد من عناصر قوتها.
وبكل بساطة، فإن الهزيمة الإسرائيلية الكبرى، والإنكفاء الذليل بسرعة البرق من جنوبي لبنان، لم يحدثا خارج حدود هذه القاعدة، التي بإمكانها أيضاً وبمنطق رياضي خالص، أن تعمل بشكل معكوس: فإن قوة أي طرف عربي، بخاصة في دول الطوق «ومنها لبنان وسورية» ستزيد عناصر ضعف «إسرائيل»، وهكذا فإن مراهنة «إسرائيل» الآن على مرحلة ما بعد «الضباب» لا يكون أكثر من مجرد محاولة لإبقاء المنطقة العربية بالكامل في عتمة تلك الغيمة السوداء، التي لم تمطر سوى الانكسارات على مدى عقود مضت.
لهذا السبب بالذات، يبدو مبرَّراً كل ذلك الحذر الذي يشوب «فرحة النصر اللبناني»، فقد هزمت «إسرائيل» عسكرياً وسياسياً في لبنان، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تحدث هزيمة إسرائيلية بهذا المستوى، والأهم أن هزيمة إسرائيلية كهذه قد تكون فاتحة لحقبة جديدة ومختلفة في المنطقة، وعنواناً للانهيار الإسرائيلي الأكبر في فلسطين المحتلة لاحقاً.
إن الحالة البائسة والمزرية التي بدت بها القوات الإسرائيلية وهي تنسحب من الجنوب اللبناني لم تكن مفاجأة للطرف الصهيوني بقدر ما كانت مدهشة لأطراف أخرى خاصة تلك التي ما زالت منخدعة بأسطورية القوة العسكرية الإسرائيلية، ودهاء السياسة الصهيونية، لكن ذلك انهار أمام أعينهم في ساعات قليلة ومتسارعة، وإذا كان أحد من المراقبين لم يساوره شك في جدية القرار الإسرائيلي بالانسحاب، إلا أن الشك المصحوب بالمفاجأة كان في الآلية التي انسحب بها الإسرائيليون والتي جسدت حالة نادرة من حالات الفرار المرتبك والذليل حتى بدت القوات المنسحبة وكأنها خارجة من سجن طال حبسها داخله، وتخشى أن تعاد إليه مرة أخرى، كما أن حركة تلك القوات المتسارعة بدت وكأنها تريد أن تنهي هذا المشهد الذليل بسرعة ولا تتوقف عنده طويلاً، هروباً من نفسها ومن العالم.. عبَّر عن ذلك أحد الجنود المنسحبين قائلاً: في النهاية أنزلنا العلم على عجل ورددنا النشيد القومي حتى لا يراودنا شعور المنسحب وهو شعور ذليل».
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت أكثر حرقة في وصف المشهد وهي تخرج بعنوانها الرئيس «يوم الذل» قائلة: إن ذلك الانسحاب هو فخ آخر في قائمة طويلة من أفخاخ لبنان.
محاولات الساسة الصهاينة لم تفلح في الإمساك طويلاً باللوحة البراقة التي ظلوا يحاولون من خلالها أن يلقوا في روع العالم أن الانسحاب يأتي استجابة لقرار الأمم المتحدة رقم 425، أو أنه خطوة من قبلهم وتنازل في سبيل تحقيق السلام.. وقد ثبت أن ذلك معدوم المصداقية وسقطت تلك اللوحة لتكشف عن انهيار.. عسكري ونفسي.. بل وتكشف عن تناقض وتضارب فيما يعلنه الساسة والعسكريون الصهاينة، ففي الوقت الذي كان فيه شاؤول موفاز رئيس أركان الجيش يعلن بطريقته المتغطرسة أنه لم يقرر بعد الموعد الدقيق لانسحاب قواته، كانت المقاومة قد سيطرت بالفعل على نصف مناطق الجنوب بعد أن فر منها الجنود الصهاينة.
وفي الوقت الذي كانت سلطات الاحتلال الصهيوني تمارس أسلوبها في الابتزاز والضغط، مستخدمة أسرى معتقل الخيام اللبناني وتحاول المقايضة بهم، كان رجال المقاومة ومعهم جماهير الجنوب يقتحمون المعتقل من كل اتجاه، ويحررون أسراهم الـ 146.. هذا المعتقل الذي أقامته قوات جيش لبنان الجنوبي العميلة عام 1985م، لتسجن فيه المئات من مواطنين الجنوب الرافضين التعامل معها.
أمام هذه الحقائق لم تجد الأوساط العسكرية الإسرائيلية مفراً من الاعتراف بتدهور الأوضاع الأمنية في الجنوب بشكل فاق كل التوقعات. ولم تجد وسائل الإعلام مناصاً من الاعتراف بالهزيمة والخجل من تردي هيبة الجيش وصدمتها من عجزه عن السيطرة.
لقد أثبتت المقاومة اللبنانية أن المقاومة الشعبية الاستشهادية تظل الوسيلة المثلى في التعامل مع العدو المحتل، وهي أفضل السبل لاستعادة الكثير من المفقود من الذات والكرامة، وأن الحق في عالم اليوم إذا لم تكن معه قوة تحميه، فهو ضائع مهدور، وهذا هو الدرس الأهم في تحرير الجنوب، وهو ما حدا بقائد المقاومة المنتصرة في لبنان الشيخ حسن نصر الله أن يقول:
«تعلموا الدرس أيها الأخوة الفلسطينيون».. ولم يكن يقصد أبداً أن يعيِّر الفلسطينيين بشيء، فالدرس يقول: إن ثمة طريقاً واحداً نحو الحرية، يعرفه الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون، وكل العرب، وفي المقابل ثمة طريق واحد نحو العبودية، يعرفه الجميع أيضاً، الدرس يقول: إن راية طريق الحرية تنتقل من يد إلى يد.. ومن كتف إلى كتف كما تعلم أطفال العرب دائماً، هذا المشهد على طاولات المدارس الابتدائية، درس «مؤتة».. أما راية الذل والاستسلام فلا يد تقبل أن تتناولها من يد ارتضت الهزيمة والارتماء تحت أقدام العدو.
وفي درس «النصر اللبناني الكبير» الكثير مما يمكن تعلمه أيضاً، وهذا هو سر رعب الإسرائيليين المقيم، وسبب كل هذه التهديدات التي يطلقها زعماؤهم ضد لبنان في الآونة الأخيرة.
إن أهم ما يلزم لفهم «الدرس اللبناني»، وهو في كل حال درس عربي بامتياز، ألا يجري التعاطي مع حدث نوعي حفر نفسه في ذاكرة المستقبل ب«عقل بارد»، حتى لو بدا المشهد مختلفاً من «النافذة العربية» عنه من «النافذة الإسرائيلية».
من دون هذا «العقل البارد» المرهق بعقلانية الهزيمة وواقعية عدم التعود على الانتصار، سيتذكر الكثيرون فجر يوم الخامس والعشرين من مايو عام 2000م، ليس فقط لأنه فجر يوم عربي للحرية غير مسبوق، شهد اندحار آخر جندي إسرائيلي عن الأراضي اللبنانية «عدا مزارع شبعا»، ولكن لأنه في هذا اليوم بالذات تغير شيء ما على جانبي الحدود، بين الاحتلال الإسرائيلي، وبين أمة عربية بدأت تعرف كيف تنتصر.
* نائب المدير الإقليمي للاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي لندن |