يبدو أنَّنا سوف «نعاني» ما حيينا من «الاختلاف» فليس ثمَّة قضية يتفق عليها «العرب»، وتأخذ جُلَّ اهتمامهم، وتسهر جَرَّاها عيونهم، وتختصم، مثل قضية الاختلاف..
لذلك لم يُبدعوا...
ولم يُنتجوا...
ولم يبنوا..
ولم يُعمِّروا...
ولم يشتهروا...
وظلُّوا مشغولين «بمناكفة» بعضهم، فقوَّتهم في التنابز، ليس في الأسماء، والعوائل، والقبائل، والجاه، والمال فقط، بل في حجم الأجسام...، وفي كلِّ شيءٍ يمكن أن تنتفخ به، وله صدورهم، وأوداجهم، وبطونهم...
إنَّهم إن سمعوا رأياً فكأنَّه السِّراج، تقاطروا حول السِّراج كالفراش، وكالنَّمل على قرص العسل، وفي الوقت الذي يمنح الضوءُ للفراشات حياتها، وتمنح النحلةُ للخليَّة عسلَها، فإنَّ العرب وهي تتكتَّل حول «رأى» الآخر، إنَّما تعمل على تقليبه يمنةً، ويسرةً، والغوص في تفاصيل دلالاته، وما وراء أبعاد حروفه، وتنقلها من هنا لهناك، وتقصُّ منه حرفاً لتعود فتُلحقه بالآخر، وتكوِّن من قصِّها، وإلحاقها، أفكاراً أخرى، ومعاني ليست في السياق الأصل، وتخرج به عن مجراه، وتجرِّده من معناه، وذلك بهدم مبناه..
وبعد أن تفعل ذلك... تبدأ في تجريحه، وتجريمه...، والانقضاض على صاحبه لكزاً، وضرباً، وتجريحاً..، تماماً كما تفعل الضواري بالجثث تحت الأنقاض، تنقضُّ عليها تبعثرها، وتمزِّقها، وتأكلها، وتترك عظمها مكسَّراً، مهشَّماً...
والعرب... تختلف ولا تتفق بين مفكِّريها على وجه الخصوص...
لا يُرضيها الاتفاق أبداً..، إن جئت شرقاً، اتجه الآخر منهم غرباً، وإن قلتَ أنكروا قولك، وإن فعلتَ رفضوا فعلك، وإن جئت إليهم عابوك، أو ركنتَ إلى ما يرون نبذوك، فأنت أمامهم جاهلٌ، متناقضٌ، لا ثبات لك، ولا هويَّة، مفرَّغ من القيم، متسطِّحٌ بالهشاشة..، تصل بهم مشاعر التناقض، والرفض، حدَّ النميمة، وحدَّ المجاهرة، وهم يصافحونك يبتسمون، ويلذعونك، ويمضون.. ألا ترون إلى العرب كيف لم يتفق لهم رأي، ولم يتَّضح لهم موقف؟؟
لا في بيوتهم بين أفرادهم، ولا في شوارعهم بين مارِّيهم، ولا في مؤسسات مجتمعاتهم بين عامليهم، ولا في ساحات ثقافتهم، ومنابر مفكِّريهم، بين علمائهم وأصحاب الرأي فيهم..، إن عارضوك عادوك، وإن والوك ظلموك...
وإلاّ كيف لا يتفقون على ثوابت؟
وكيف يختلفون على الاختلاف ذاته؟
إنَّ عودةً إلى الصُّحف، والساحات الإلكترونية، ومجلس النقاش تمنح كلَّ متسائل في هذا الشأن ما يؤكده...
وسوف يبصم الجميع على حقيقة أنْ لا شيء يجمع مفكِّري، ومثقفي العرب، وتحديداً ذوي الفكر خاصّتهم وعامَّّتهم منهم سوى طاولات الاختلاف، وأركانها، وزواياها، بل ساحاتها الواسعة.
فالَّلهُمَّ مع هذا البلاء لا تحرمهم متعة الأدب فيه، والتخلُّق بخلق ثوابت الآداب الإسلامية كي ينجوا من مغبَّة اللَّوم للّْذات عندما تأتي، ولسوف تأتي لحظة مواجهة الذات، ذات يومٍ عندما يدركون أنَّهم خرجوا من الاختلاف دون نتائج فليتهم يفكِّرون كيف ينتجون؟ ويبنون، ويبدعون، كي لا يعيشوا على أنقاض الأمجاد..
|