«الهمم البائدة» هي الهم الذي بدأ يطل على عالمنا، ويكبر في نفوسنا، ويتضخم في ذوات بعضنا، ليتجاوز حدود المعقول أحياناً، ويصبح الجميع مهددين بالإصابة بهذا الداء العضال.. حتى وإن حاول البعض منا جاهداً أن يدرأ عنه تهمة البِلَى، والتهالك فإنه سيجد ان هناك من يقف بالمرصاد لمثل هذه المحاولات التي يسعى من خلالها الى التخلص من هذا الأذى.. سيشاطر الهم أفكارك، ويناصبها العداء إن هي شبت عن الطوق وحاولت الهروب نحو التطلع الأمثل للحياة الواعية.
أسوق هذه المقولة لا على هيئة طرفة أتندر بها، إنما على محمل التأمل الجاد لأبعاد هذه المشكلة التي تتفشى بالمجتمع لتحاول التغلغل فيه، وافساد رغبته، وتطلعاته نحو بناء مجتمعه المثالي الذي هو الهدف والغاية السامية دائماً، فالمجتمع وأينما اتجهت ستجد ان فيه من هؤلاء من هم في مسيس الحاجة لأن يستيقظوا من وسن هذه الظاهرة، وأسن أذاها.. فأهل الهمم البائدة يحتاجون إلى تقييم جاد، ومعالجة حازمة، وقرارات شجاعة تشبه الإغارة على الأعداء تماماً.
ونماذج أهل الهمم البائدة كثر وحصرهم صعب، وتفريقهم شبه مستحيل والتخلص منهم غير ممكن، ولكن إن حاولنا أن نكون أكثر جرأة في تعرية واقعهم سنكون قريبين من تحقيق الحلم، لا ببناء مدينة فاضلة حالمة، وإنما في المحاولات المتتابعة لنقيم أوضاعنا من جديد من خلال الأخذ بالجدية المتميزة، والتجربة الصادقة التي تصيب عين الحقيقة أو كبدها من أجل ان نعري هذه الفئة المريضة من المجتمع، ونقدم ما لدينا من حلول وإجابات حول هذه المشكلة.
مازلنا في حيرة من الأمر.. كيف يتسنى لنا أن نقدم تعريفاً حقيقياً لظاهرة «الهمم البائدة»؟ وكيف يتسنى لنا ان نوجد نماذج واضحة من هؤلاء، لنحاول ان نتناولهم في الدراسة والتحليل؟.. دعونا نجتهد في تعريف الهمم البائدة.. سنجد انها تتلخص في تدني النفس البشرية إلى مستوى من التهالك النفسي، والبِلَى المعنوي، والتردي في حالة الوعي، ليصر أصحاب هذه النفوس على فهم العالم بطريقة مشوهة تنطلق من اعتقادات خاطئة يسترشدون بها، وربما أبرز هؤلاء هم الذين ينصرفون إلى كل شيء له ملامح الماضي، ونكهته، وذكرياته.. بل انهم يصورون ذلك الزمن الغابر بأنه جميل في كل شيء.. في كل مراحله، وتحت أي ظرف من تلك الظروف التي كونته وأسهمت في تخليده في الذاكرة الاجتماعية لدينا.. من هنا تأتي المغالطة من هؤلاء الذين يجعلون كل الماضي جميلاً.. أبداً يا أحبتنا.. الماضي عالم غائب في تضاعيف التاريخ.. له ما له، وعليه ما عليه، لنتركه يرقد هنا بسلام ونلتفت إلى يومنا هذا، ونرقب الآتي الذي سيكون حاضر أبنائنا.
ومثال آخر لهؤلاء المهزومين هو ما نراه اليوم من بعض جيل اليوم الذين تختلط عليهم الأمور دائماً ليسجلوا الهزيمة تلو الأخرى أما الصعوبات التي تعترض طريقهم في البحث عن عمل مثلاً، أو فرصة تجارية مناسبة، ليصبح الأمر لدى الفرد منهم هالة من اليأس والإحباط، والقنوط والتبرم والسخط.. لتتحول هذه الهزيمة إلى حالة أشد قتامة في الروح، وتصبح الهمة في قعر الهاوية، حتى تيأس النفس، وتبيد المعنويات، ويتحول الإنسان في هذا السياق إلى مجرد مخلوق قانط يحمل اليأس، ويتشح رداء النصب، والهموم المؤذية.
كيف نقيِّم هذه الإشكالية؟ ونقف منها موقف المتأمل الفاحص لأبعادها الخطيرة.. تلك الحالة التي تتعمق في بعض أفراد المجتمع لتحيلهم إلى مجرد هاذئين من فرط خورهم، وتضعضع هممهم، ليتحولوا مع الوقت إلى محدقين في العالم من حولهم فقط، يحملون على أكتافهم أثقال الهزيمة، وتطفح ذواتهم بالسقم اللاعج من فشلهم.. كيف لا تكون ذواتهم محطمة وهممهم بائدة في ظل هذا الجهل المطبق فيهم، والنأي المتباعد من هؤلاء الذين يحيطون بهم؟.. فلا يجرؤ أحد منهم ان يسهم في الحل، أو يناقش هذه المعضلة التي تحدق في هؤلاء.. أهل الهمم البائدة..
ويقودنا هذا الأمر لأن نناقش المعضلة بما نستطيعه من شجاعة وما نملكه من وعي.. لأن ترك هؤلاء المحبطين واليائسين في العراء سيعرض المجتمع بأسره إلى مشكلة أكبر.. لنلجأ وبكل وعي إلى المختصين في علاج هذه الحالة المرضية.. لنبحث لها عن تصنيف بين الأمراض الاجتماعية لعلنا ننجح في تحديد عالمها، ونعطي للمتخصصين في هذا المجال ان يقدموا التشخيص السليم، ومن ثم يشرعوا فوراً في العلاج، لعلنا ننقذ ما يمكن انقاذه من هؤلاء الذين هدهم عناء هذا المرض الذي أحسبه من أخطر الأمراض في المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء.
|