Thursday 30th May,200210836العددالخميس 18 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

حكاية «المسكوت عنه» في تاريخنا الإسلامي حكاية «المسكوت عنه» في تاريخنا الإسلامي
د. خالد بن عبدالكريم

يزداد شعور المرء بأهمية التاريخ وضرورة استنطاق حوادثه واستكناه أسراره، كلما أدرك حجم التحديات الحضارية التي تشتد وطأتها عليه في لحظته الآنية، ولاسيما ما يتعلق منها بمشكلات الهوية والانتماء، ولهذا انبرى نفرٌ من المؤرخين المحدثين لدراسة المخزون الثقافي في ذاكرة الأمة، وتجميع جزئياته المتناثرة في بطون الكتب، وشرحها وتحليلها وتعليلها وتصنيفها، بقصد الوصول إلى تصور منطقي سليم للماضي، عسى أن يفيد في فهم الحاضر بطريقة أفضل، ومن ثم إيجاد حلول مناسبة لمشكلاته المتلاحقة.
لم تكن المسألة هينة بطبيعة الحال، فالطريق إلى الماضي ليست مفروشة بالورود، والإنسان لا يستطيع أن يرى بوضوح تام كل ما هو خلفه أثناء مشيه إلى الوراء!.
ومن هنا؛ فقد تعثر فريقٌ من الباحثين، فزلت أقدامهم وجمحت أقلامهم في مزالق الاستنتاجات الخاطئة، وما أفرزته من أحكام متسرعة، فحين غاب عنهم الخبر اليقين لجأوا إلى التأويل، واستبدلوا الفلسفة وفرضياتها بالحقيقة وتجلياتها.
ولا مشاحة في مشروعية هذا المنهج لو كان معجوناً برؤية موضوعية ونية صادقة.
لقد افترض هذا الفريق من المؤرخين المحدثين، أن التاريخ الإسلامي لم يتحدر إلينا كاملاً غير منقوص، بخيره وشره، بنجاحاته وإخفاقاته، وإنما هناك جوانب «مسكوت عنها» في التاريخ الإسلامي، لم يشأ الرواة والإخباريون والمؤرخون أن يتناقلوها في مروياتهم ومدوناتهم، وإنما سكتوا عنها لأسباب سياسية ومذهبية ونفعية وما إليها، وخلصوا من ذلك كله إلى القول :إن الأجيال المسلمة السالفة منها والخالفة قد تدارست التاريخ فيما بينها بطريقة تربوية وتهذيبية، هدفها رفع الروح المعنوية للأمة، من خلال التركيز على الجوانب المشرقة في تاريخنا، كقصص البطولات الفردية، ومحاسن الخلفاء والملوك والقادة، وأخبار الزهاد والصلحاء والمتقين، وما أشبه. وكان حقه أي التاريخ أن يُدرّس بطريقة علمية استقصائية، تدوّن المناقب وتعترف بالمثالب، ولا تجد أدنى حرج في الحكم على الشخصيات التاريخية أو الحكم لها، فيما يُعتقد أنه خطأ أو صواب، بصرف النظر عن الاعتبار الديني أو السياسي لهذه الشخصيات التاريخية.
فما مدى صحة هذه الدعوى؟
الواقع أننا لا نستطيع الزعم بأن أسفار التاريخ الإسلامي الموجودة بأيدينا اليوم، تمثل مرآة صادقة تعكس جميع الحوادث التاريخية بكامل تفاصيلها، كما أنه لا يمكن الادعاء أيضاً بأن من يطالع كتب التاريخ يستطيع أن يتبين نبض الحياة اليومية في أسواق وطرقات المدن الإسلامية في عصورها الماضية، فالتاريخ ما هو إلا سجلٌ شامل لحوادث السياسة والحرب في المقام الأول، ومن ينعي على التاريخ انصرافه إلى تدوين أخبار الحكام والقادة وإهماله لطبقات المجتمع المنتجة من حرفيين وباعة، فقد التبس في ذهنه مفهوم التاريخ ووظيفته الفلسفية. فأرباب السياسة والحرب هم من ينتج التاريخ أصلاً. إنهم يصنعونه ولا يصنعهم، ولذا كان لزاماً على التاريخ أن يستقصي أخبار صانعيه. أما أن نلزمه أي التاريخ بالصفق في الأسواق والمشي في الطرقات، منقباً في مسالخ الجزارين ودكاكين الخياطين، فكأنما نريد بذلك أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات!.
ومع هذا كله؛ فإننا لا نجرؤ على القول : إن الكتابات التاريخية استوعبت جميع الحوادث السياسية والعسكرية الكائنة في معظم فترات التاريخ الإسلامي، فهل يعني هذا أن هناك جوانب محددة سكت عنها المؤرخون بالفعل؟
إن تفسير هذا الأمر على نحو مقبول، يتطلب أولاً اطراح عقلية المؤامرة، وما تفرزه من شعارات مؤامراتية تقدح في أغلى ما يملكه المؤرخون المسلمون، وهي الأمانة والخلق القويم، فالافتراض بأن قدامى المؤرخين كانوا يمالئون السلطة القائمة، فينشرون محاسنها ويغضون الطرف عن نقائصها، وبالتالي فإن إنتاجهم التاريخي ليس سوى «تاريخ بلاط»، أو تاريخ يكتبه المنتصرون؛ فإنما هو افتراض تُكذبه المصادر التاريخية. إن من المعلوم أن المصادر التاريخية المدوّنة، تنقسم إلى قسمين هما: الحوليات التاريخية، وكتب التراجم والطبقات. ولو أننا تجاوزنا الادعاء بأن مصنفي الحوليات التاريخية كانوا إما موظفين في البلاط، أو منتفعين منه؛ مما أدى إلى تلوين كتاباتهم بألوان المنفعة الشخصية، وما إليها؛ فإن جل مصنفي كتب التراجم والطبقات كانوا بخلاف ذلك تماماً. فهم في الغالب فقهاء ومحدثون ومفسرون، اشتغلوا من كسب أيديهم، وبالتالي فهم لا يشعرون بشيء من المديونية للسلطة القائمة، ومع ذلك فلا نكاد نجد في مصنفاتهم ما يتناقض مع الحوليات التاريخية الرسمية..
وأما المطلب الثاني؛ فإنه يلزمنا أن نتصور مدى قدرة المؤرخ على الإلمام بكامل تفاصيل الحوادث الواقعة في عصره، أو في العصور التي سبقته، في ظل الافتقار إلى تقنية المعلومات التي امتاز بها عصرنا. فلا غضاضة على المؤرخ والحالة هذه ألا يحيط بجزئيات الوقائع الكائنة في وقته، وليس لنا أن ننتظر منه المزيد.
ويمكن أن نستشهد في هذا الصدد بمثال من التاريخ الإسلامي في الأندلس، فقد أغفلت كتب التراجم والطبقات الأندلسية، ترجمة الفقيه الأندلسي «طالوت بن عبدالجابر المعافري . فلم يذكره الخشني في كتابه أخبار الفقهاء والمحدثين، وتبعه في ذلك الإهمال ابن الفرضي في كتابه تاريخ علماء الأندلس، في حين أفاض المؤلفان في تراجم زملاء طالوت المعاصرين له، ممن هم دونه علماً وفقهاً ومكانة. فهل يعني هذا أن المصادر المشار إليها، أرادت طمس شخصية الفقيه طالوت الذي تورّط في ثورة الفقهاء ضد الأمير الحكم «الربضي» بن هشام؟ إنه لا يمكن تخريج المسألة على هذا النحو من الاستنتاجات الخاطئة، لأن المصادر نفسها ترجمت لفقهاء آخرين شاركوه في الثورة ضد الأمير الحكم، ومن بينهم الفقيه «يحيى بن مضر القيسي ت: 189ه/805م »، وبالتالي فإنه لا يسعنا إلا البحث عن مبررات أخرى لتفسير هذا النهج التصنيفي للتراجم الأندلسية لدى الخشني، ومن ورائه ابن الفرضي، مبتعدين عن رفع راية «المسكوت عنه».
وأما المطلب الثالث؛ فهو يوجب علينا ألا نصادر على المؤرخ حقه في اختيار مروياته وتصنيفها وفرزها، فيثبت ما يراه صواباً منها ويمحو ما دون ذلك، ولقد دلت الأبحاث العلمية الحديثة على أن عدداً من المؤرخين المتقدمين أسقطوا جملة من الروايات التي انتهت إليهم عن حوادث بعينها، ونبهوا على ذلك في افتتاح كتبهم، معللين مسلكهم هذا باستشناع الرواية أو ضعف طرقها، مما يعني أنهم لم يتعمدوا طمس وجهات النظر المختلفة، أو السكوت عنها لغرض سياسي أو مذهبي، وإنما أشاروا إلى وجودها دون أن يجدوا أنفسهم ملزمين بإثباتها في مدوناتهم.
وقصارى القول: إنه متى ثبت أن مؤرخينا الأوائل، قد أهملوا جوانب معينة في تاريخنا، فلم يذكروها في مصنفاتهم؛ فإن ذلك يدخل ضمن نطاق «اللامفكر فيه» لا «المسكوت عنه».

(*) جامعة الملك سعود كلية الآداب
قسم التاريخ

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved