* القاهرة - مكتب الجزيرة - شريف صالح:
هل العولمة هي السبب في أن الزوجة تقتل زوجها وتوزعه في أكياس؟ هل ضراوة الصراع العربي الإسرائيلي حالياً بسبب العولمة؟.. البلطجة.. الفقر.. اكتئاب الشباب.. هيمنة أمريكا وفقد الأب لسلطاته في الأسرة.. كلها ظواهر قديمة لكنها ارتدت ثوباً جديداً في ظل العولمة.
عدد كبير من أساتذة علم الاجتماع في الجامعات المصرية ولفيف من الخبراء والمحللين السياسيين التقوا في ضيافة جامعة عين شمس يبحثون «عولمة العنف وعنف العولمة» محلياً واقليمياً وعالمياً على مدار ثلاث جلسات ملتهبة استغرقت نهاراً كاملاً.
رأس الجلسة الأولى د. سمير نعيم أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، وخلالها قدمت الدكتورة شادية قناوي ورقة عن علاقة العنف المحلي بالعولمة، على حين عقب المحلل السياسي الدكتور وحيد عبدالمجيد على الورقة البحثية بمنظور مغاير تماماً.
في بداية تقديمه للجلسة ذكر د. سعيد نعيم أن كلمة العولمة مصطلح «تزويقي» لتغطية عملية ممتدة ومستمرة عبر التاريخ، نمت مع بداية النظام الرأسمالي، وتهدف هذه العملية - بغض النظر عن مسمياتها - إلى نهب الشعوب المستضعفة.. واستغلالها، وبالتالي يمكن القول إن العولمة في حقيقتها الغربية هي عولمة العنصرية والعنف والانحلال الأخلاقي والقيم الاستهلاكية والتفاوت الطبقي ورفضه الآخر.
وهذا ما تجلى في خطاب بلير مع بوش في تكساس منذ أسابيع قليلة حين قسم بلير العالم إلى قسمين: أوروبا الغربية وأمريكا «أصحاب الحضارة» في مواجهة القسم الآخر الذي يجب أن يخضعوه بالقوة وينشروا قيمهم بالقوة أيضاً على هذا القسم. وبنفس المنطق تحدث من قبل رئيس وزراء ايطاليا برلسكوني.
في المقابل يتم تغطية هذا الوجه القبيح - والمرفوض للعولمة - بوجه ثقافي براق، فيتردد الحديث عن أن العولمة تعني الحرية بلا قيود في أربعة مجالات البضائع والسلع، حرية انتقال رؤوس الأموال، حرية انتقال البشر، حرية انتقال المعلومات والثقافات والأفكار.. لكن الحقيقة أن الترويج للعولمة من خلال هذه المقولات لا يجيب عن أسئلة أخرى مهمة لمن؟ وكيف؟ ولماذا؟ فهذه الأهداف لا تحقق الخير والرخاء لجميع البشر وإنما يتم توظيفها في خدمة اتجاه واحد، ولحساب الدول الثمان الكبار فقط، على سبيل المثال بعض بلدان العالم الثالث كالهند كلفت دواء الايدز حوالي 300 دولار على حين تكلفة الدواء الغربي لنفس المرض حوالي 15 ألف دولار، وتضطر دول العالم الثالث لشرائه بهذا السعر المغالى فيه بما يعني قتلهم، والحقيقة أن هذه الشركات الكبرى نفسها تقوم بالقرصنة والسطو على أفكار العلماء في بلدان العالم الثالث وتسجلها باسمها، لتظل قوانين الملكية الفكرية موظفة في خدمة وتقنين استغلال هذه الشركات عابرة القارات.
وفي بحثها ركزت د. شادية قناوي على ظاهرة العنف المحلي - مصر نموذجاً - وعلاقتها بظاهرة العولمة، وتنطلق في بحثها من نظرة سلبية إلي مصطلح العولمة باعتباره يعني الاستغلال والتوسع على حساب بلدان العالم الثالث بهذا المعنى يمكن تفسير ظاهرة العنف في المجتمع المصري في اطار جدل ما هو عالمي محلي. إذا كان الانسان بطبعه لديه الاستعداد للخير والشر للعنف والتسامح، فإن ظهور عنف على السطح يرتبط دائماً بمثيرات خارجية، هذه المثيرات أصبحت متعددة ومتشابكة في ظل سياق العولمة الآن.
وتقسم شادية قناوي العنف إلى نوعين: عنف رسمي مجرم، وعنف رسمي غير مجرم، وفي العادة تهتهم أغلب الدراسات بالعنف «المجرم» أي ما يتم تجريمه بالفعل، أمّا الأفعال المضرة التي لا تجرم قانوناً فلا أحد يلتفت إليها، على سبيل المثال تمارس بعض الأنظمة عنفاً ضد شعوبها لكن لا يجرم خاصة فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الاقليات وغير ذلك أو في ارتفاع الأسعار فهذا عنف رسمي غير مجرم يقابله رد فعل عنيف من قبل الشباب الذي يلجأ إلى الاكتئاب أو المخدرات أو الزواج العرفي.. وهناك شكل ثالث غير الرسمي «غير المجرم» يظهر في مجال الثقافة والإعلام ويتجلى في بعض الأحزاب من طرح برامجها في التلفزيون وتحديد ما يجب وما لا يجب أن يقال، أو تأطير الناس في خانات لمجرد أنهم اختلفوا في الرأي وفي مقابل العنف الرسمي هناك عنف غير رسمي تقوم به الجماهير من خلال المظاهرات فالجمهور يمارس سلوك العنف ضد السلطة أو ضد بعضه البعض، مثلما يحدث في مصر عند حدوث تصادم سيارات. وهناك عنف فردي غير رسمي مجرم، إذ يقوم أحد الأفراد بتوجيه طاقة العنف إلى ذاته وليس إلى المجتمع! ادمان مخدرات، انتحار، هروب من الواقع، شعوذة ، اكتئاب.
تعتبر د. شادية أن شعور الفرد بأنه لا يحصل على حقه هو الشرارة الأولى لانطلاق موجة العنف محلياً، وفي أحيان كثيرة يكون عنف الفرد والجماعة مجرد رد فعل على عنف السلطة أو عنف ظاهرة العولمة في صوره المتعددة التي تدعم الأقوى باستمرار ضد الأضعف. ولا حل لهذه الظاهرة إلا بتوفير اشباعات حقيقية لأفراد المجتمع تضمن بالضرورة حماية فكرة الدولة نفسها من التآكل تحت ضغط العولمة.
وفي تعقيبه يتفق د. وحيد عبدالمجيد - نائب مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية - على أن ظاهرة العنف المحلي تزايدت في الآونة الأخيرة، فكنا من عشرين عاماً نعبر عنها بمقولة «حوادث مؤسفة» والآن نقول «البلطجة» لكنه يرفض ربط هذا العنف المتزايد بظاهرة العولمة، لأن العولمة لا تؤثر فيه إلا مع استعداد البنية الداخلية للمجتمع مثلاً، بدليل أن دولة مثل تونس تأثرت بالعولمة ومع ذلك لا تتساوى درجة العنف هناك بدرجة العنف في القاهرة، بالتالي ظاهرة العنف هي نتيجة لعوامل داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية عانت منها مصر طيلة الخمسين سنة الأخيرة وأدت إلى انهيار البناء الاجتماعي وفقد قيمة العمل لمعناها لتحل محلها مقولة «أخطف وأجري» أو مقولة «لا تعمل كثيراً حتى لا تخطئ كثيرا».. يزيد من حدة العنف المحلي اقتران السلطة بالثروة فأصبحنا نشهد ما يمكن تسميته بعنف الأقوياء وتمجيد القوة في مقابل عنف الضعفاء كرد فعل، لكن العامل الأساسي يتعلق ببناء المجتمع وليس بالعولمة.
في الجلسة الثانية التي رأسها الدكتور عبدالهادي الجوهري أستاذ علم الاجتماع، قدم الدكتور أحمد يوسف - مدير مركز البحوث والدراسات العربية - ورقة بحث متميزة عن العنف الاقليمي وعلاقته بالعولمة.
بداية عرّف أحمد يوسف العنف قاصراً إياه على الاستخدام الفعلي للقوة المادية، ويكون سياسياً إذا كانت أهدافه سياسية، ويكون اقليمياً عندما يكون الفاعلون اقليميين أولهم تأثير اقليمي. من هذا التعريف الاجرائي ينطلق د. أحمد يوسف في رصد العنف في منطقة الشرق الأوسط - والوطن العربي - مؤكداً على أن العنف وإن كان سابقا على ما يسمى «بالعولمة» فإنه لا يمكن فصل العنف الاقليمي.. عن السياق العالمي.
ويرى أحمد يوسف أن هناك نوعين للعنف الأول محلي والآخر عالمي، وعادة يصبح هذا العنف أكثر ضراوة حين يمتزج العالمي والمحلي، مثلاً الصراع العربي الإسرائيلي شهد دورات عنف ضارية مرة كل عشر سنوات تقريباً خاصة مع الدعم الأمريكي لإسرائيل وإسرائيل نفسها كظاهرة استعمارية تعد مصدراً اقليمياً للعنف في المنطقة.
ويذكر د. أحمد يوسف أن العنف العربي العربي كان آخر أشكال العنف الاقليمي ظهوراً «غزو العراق للكويت 1990» وأقصرها مدى «سبعة أشهر» رغم أن الاثار مازالت ممتدة. وهناك صراعات عربية أخرى كانت عبارة عن مرآة عاكسة للحرب الباردة «اليمن وسلطنة عمان» وهنا تغذي المصادر العالمية هذا العنف الاقليمي مع وجود أوضاع قبلية وعقدية وجغرافية مساعدة.
بالنسبة للشرعية الدولية ودورها في العنف الاقليمي، يلاحظ أن آليات هذه الشرعية معطلة تماماً فيما يتعلق بإسرائيل، على حين كانت قوية الفاعلية فيما يتعلق بالعراق وأحياناً كان يتم الانحراف بهذه الشرعية وقراراتها لحساب الولايات المتحدة الأمريكية.
ملاحظة أخرى وهي أن أغلب الأطراف التي شاركت في العنف الاقليمي اتسمت في مواقفها بعدم «الرشادة» مصر في 1967م والعراق في عقدين متواصلين وإسرائيل في المذابح الأخيرة، والنتيجة أن الخسائر الاقتصادية التي ضاعت على المنطقة تقدر بمليارات الدولارات.
كما أن المنطقة تحولت إلى حلقة مفرغة من العنف، عنف اقليمي يؤدى إلى تدهور اقتصادي ويرى البعض أن العولمة ووجود قطب واحد مهيمن أثرا بالزيادة على العنف الاقليمي، فالعولمة سهلت لأمريكا ممارسة العنف الاقليمي ضد العراق، وفي أعقاب 11 سبتمبر أطلقت يد إسرائيل باسم محاربة الارهاب لاحتلال المناطق الفلسطينية، بالمقابل قللت العولمة من مشاكل إقليمية أخرى، فمثلاً الصراع الحدودي بين اليمن والمملكة العربية السعودية منذ عام 1934م وتم حله مؤخراً عام 2000م، مما يعني أن بعض أنماط العنف تتقلص، ربما لأن أحداث سبتمبر جعلت العرب يشعرون أنهم في كفة وأمريكا في كفة، فكان هناك - على سبيل المثال - رفض عربي شامل لضرب العراق، ومحاولة لتقليل العنف العربي العربي في أضيق نطاق.
وفي ختام بحثه أكد أحمد يوسف على أن حركة التحرر الفلسطيني هي مقاومة مشروعة ضد استعمار صهيوني، بالتالي لا يجوز وصفها من الناحية العلمية بأنها دلالة على العنف أو الارهاب، ولن نستطيع كعرب أن نواجه هذا المشروع الاستعماري المدعوم عالمياً إلا بأن نطور أوضاعنا الداخلية بالتزامن مع مواجهة العدو.
وفي تعقيبه على البحث قال الدكتور عبدالمنعم سعيد - مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام: إن مفهوم العولمة مرتبط بقيم مادية ومعرفية تتجاوز الحدود القومية ولا نتقيد بها. أما مفهوم العنف فهو موجود منذ بداية التاريخ الانساني فهل أثرت ظاهرة جديدة كالعولمة على العنف كماً وكيفا؟
بعد هذا التساؤل يرفض د. عبدالمنعم سعيد اعتبار أن منطقة الشرق الأوسط «متعولمة» أو أن العرب يعيشون ظاهرة «العولمة» فنصيب الدول العربية من التجارة العالمية ضئيل للغاية.
من الناحية السياسية يلاحظ د. عبدالمنعم سعيد أن العنف الاقليمي - في ظل العولمة - إما أنه انتهى سريعاً «غزو العراق للكويت» أو أنه تجمد، فلا نجد حرباً بين إسرائيل واحدى الدول العربية منذ عام 1982م، وأكبر عنف اقليمي عرفته الدول العربية كان داخلياً أو محلياً «الجزائر نموذجاً، أكثر من مائة ألف قتيل».
ويعتبر د. سعيد اتفاقية أوسلو - أول نموذج لاتفاقيات زمن العولمة - حيث تم مراعاة الأبعاد الاقتصادية في الاتفاقية وتمت بمشاركة العديد من الأطراف الدولية - كالاتحاد الأوروبي - لكنها فشلت لأن العولمة في المنطقة تبرر العنف.
ويخلص عبدالمنعم سعيد إلى أن ما وصلنا من العولمة قشور تظهر في الناحية الإعلامية على وجه الخصوص، وبالتالي فإن زيادة العنف المحلي أو الاقليمي لا يمكن ربطها بالعولمة.
|