لا ريب أن محاورات التفاضل بين العرب وغيرهم في تراثنا قد اخرجت الثقافة، من حيث هي ذاكرة ماضوية للجماعة، الى مدونة علامات رمزية ذات خصوص مكاني وزماني. أي انها احالتها إلى نص سيميولوجي قابل للقراءة ومستجيب للفهم والتأويل، لا من قبل ابناء الثقافات المختلفة عنها، فحسب، وإنما من قبل ابنائها ايضاً. ذلك ان القراءة، بوصفها فعل ادراك وفهم، تحتاج الى مسافة معقولة للنظر، وهذه المسافة هي قيمة التحول التي تقيسها الرؤية بين اللاوعي والوعي، والمضي والحضور، والممارسة والنظر، والاتصال والانفصال.. لقد انفصل المحاور عن الثقافة ليراها، وتوقف عن ممارستها ليعقل الوصف لها، واستحضرها ليكتشف فيها امتداد الماضي لا المستقبل، وانها تجاوزه فرداً الى الجماعة، وتتخطاه الى التاريخ.
لا عجب - إذن - ان نلمح بعض الفجيعة، وشيئاً من الإحباط يستبطن وعي العرب وهم يتأملون ثقافتهم من نافذة المستقبل وليس الحاضر،والعالمية وليس المحلية، والحركة وليس السكون، والانتاج والإثراء الانساني وليس العقم والضحالة وانعدام الفاعلية. فالجاحظ - مثلاً - لم يكن في حاجة الى من يعلمه ان الكتابة، والعلم، والفكر، والمنطق، والنظام، والحضارة والترقي في معارج العيش الانساني الكريم.. هي مقومات لتمدن يخاصمه التخلف، ومواصفات الجماعة يجافيها الجهل وتنأى عنها العنجهية والجلافة. ولذا يبدو الجاحظ، في معاينته علامات الثقافات ورموزها، واصفاً حيناً ومعيارياً حيناً آخر. وبين هذا وذاك تستبد بنا الدهشة، ونحن نلمس من طرف خفي دفاعه عن العرب واتهامه لهم.
إنه يقول:« كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فانما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكُتب، وحكاية الثاني علم الاول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم. وكل شيء للعرب فانما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا احالة فكر ولا استعانة، وانما هو ان يصرف وهمه الى الكلام.. فتأتيه المعاني ارسالاً، وتنثال عليه الالفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه احداً من ولده. وكانوا اميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون».
هذا الوصف يرسم لنا تقابلاً بين العلامات الرمزية التي تفرق صيغتين ثقافيتين، اولاهما: للعجم، وعلاماتها تتمثل في الكتابة والقراءة، والتفكير والتأمل، والتعاون والتوارث، والمعاناة والمكابدة. والثانية: للعرب، وتقوم علاماتها، بالضد من السابقة، على المشافهة و(السماع)، والارتجال والبديهة، والإلهام والتلقائية. وبالرغم من ان العلامات، التي يتكئ عليها الوصف في الثقافة العربية، ذات تجل فردي، يفصل مدار العلامة من جهة التعاقب ومن جهة التجاور، ويمعن في نفي التوارث او الاحتذاء، بما يميز، في النهاية، تلك الجماعة بطريقة ميتاعقلية وميتاواقعية - فإن حكم القيمة وصفة الفضل يستند الى حيثيات لا تتشابه مع صفات الثقافة غير العربية، مما يلغي مشروعية المقارنة ومبررات التفاضل. كان الجاحظ هنا، وبوعي اقرب الى المعرفية، يعتذر عن المفاضلة، وينقلها من المعيارية الى الوصفية، ومن مغالبة البداوة بالحضارة، والمشافهة بالكتابة.. الى حيث يكشف وصفهما مايضيف امتيازاً يبدو غائباً ومسكوتاً عنه في الاطار الشفهي البدوي، ويجلو عن وجوه من علاقات الوعي والمجتمع والمعيشة، فيرتب الفكر على الكتابة، والارتجال على المشافهة، ويسبب البديهة والتلقائية والفصاحة وغزارة القول والفردية عن البداوة، فيما يغدو الاجتهاد في الرأي، والحرص على الدقة، ومعاناة البحث عن معنى وتناصيه ذلك وجماعيته منتوجاً للوسط الحضاري وخصوصية لفضائه. وذلك يعني ان الجاحظ يذهب بالحضارة، وفق ما يجلوه من صفات الثقافة المنتجة لها، الى فضاء انساني وكوني؛ لان ما تنتجه من معنى يلتقي فيه الحاضر بالماضي والقريب بالبعيد، من خلال المشاورة والمعاونة؛ ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الاول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، هنا تغدو الحضارة رقماً يمثل المجموع الانساني وليس الافراد، عصير الشعوب والعصور والثقافات لا عددها وتعددها، كل الانسانية والعالم وليس اجزاءهما. اما البداوة فيقتصر فضاؤها على المحلي والآني، انها نقطة في خارطة الزمان وفي خارطة المكان، لان لازمتها (الشفاهية) تحجزها، ابداً، عن ان تخترق جدارهما المصمت.
لكن يكون مقبولاً من الجاحظ، بوصفه: كاتباً،عالماً، عقلانياً، وحضرياً - ان يفضّل المشافهة والجهل والبداوة، على الكتابة والعلم والعقلانية والحضارة. كما لن يكون معقولاً ان يقبل، وهو العربي، دونية العرب وفوقية العجم. وهنا تكمن خيبته وكبرياؤه، وهما وجهان لجزعه على العرب واشفافه على رصيدهم الحضاري في ميدان التطاول والتفاخر من جهة، وبغضه للشعوبية التي تنتقص فضلهم من جهة اخرى. واذا كان الجاحظ - كما رأينا - قد حاول، ان يلفت التحاور الجدلي من التفاضل الى التعارف، ومن التغالب الى التعاون، ومن المعيارية الى الوصفية، وان ينزع فتيل المناكفة العرقية، ليرسم اطار الحضارة والبداوة ويوجه مهمة النظر فيهما وجهة استكشافية استبطانية - فانه يصل ذلك بسياق تفاضل المعطيات الفنية والابداعية بين العرب والامم الاخرى، هذا التفاضل الذي يؤخذ فيه الشعر بوصفه دالاً من دوال الحكمة والفضيلة المقصورة على العرب، وميراثاً لفخار لا يطاول، في قبالة النثر الذي يغدو مكتوباً علامة رمزية على فخار الامم الاخرى. وبذات المنطق الحواري بين الموقفين تدار وجهتي النظر، ويصاغ الموقفان صياغة موضوعية يحمل تفاضل الفريقين من خلالها بعداً درامياً واضح القسمات، ومما يرد في هذا التحاور، القول:« وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجمت حكم اليونانية، وحُوِّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حُوِّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن؛ مع انهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفِطنهم وحِكمهم. وقد نُقلت هذه الكتب من امة الى امة، ومن قرن الى قرن، ومن لسان الى لسان، حتى انتهت الينا، وكلنا آخر من ورثها ونظر فيها. فقد صحّ ان الكتب ابلغ في تقييد المآثر، من البنيان والشعر».
كما يرد القول:« وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يُستطاع ان يُترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب، لا كالكلام المنثور. والكلام المنثور المبتدأ على ذلك احسن وأوقع من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر».
ويرد - ايضاً - «واما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن.. وكتب ارسطاطاليس، ومعلمه افلاطون، ثم بطليموس، وديمقراطس، وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور.. فاذا استظهرنا الشعر، وجدنا له - الى أن جاء الله بالاسلام خمسين ومائة عام، واذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام».
وكذلك:« ونفعه (أي الشعر) مقصور على اهله، وهو يُعد من الادب المقصور، وليس بالمبسوط، ومن المنافع الاصطلاحية وليست بحقيقة بينة، وكل شيء في العالم من الصناعات والآفاق والآلات، فهي موجودات في هذه الكتب دون الاشعار».
ويأتي رد الوجهة المقابلة في اتجاه التشريك بين الشعر وكتب الحكمة المنثورة، في عدم القدرة على ترجمتها بما يوفيها حقها ومعناها، وتضيف الى ذلك مشقة تصحيح الكتب ، ونسخها، وما يدخلها من الغلط، ويتعاقب عليها من الفساد بين المترجمين والخُطاط. لكن الجاحظ ينتهي من رصد ذلك ليقول، مرغباً في الكتب وكاشفاً عن طبيعة العلاقة التي تحدثها مع الحقائق والموضوعات المنظورة:« ثم رجع بنا القول الى الترغيب في اصطناع الكتاب، والاحتجاج على من زرى على واضع الكتب، فأقول: ان من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم، ومضارهم ومنافعهم، ان يُحتمل ثقل مئونتهم في تقويمهم.. فلن يُصان العلم بمثل بذله، ولن تُستبقى النعمة فيه بمثل نشره، على ان قراءة الكتب ابلغ في ارشادهم من تلاقيهم، اذ كان مع التلاقي يشتد التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط العصبية، وتقوى الحمية، وعند المواجهة والمقابلة، يشتد حب الغلبة، وشهوة المباهاة والرياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع، وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويهظر التباين. واذا كانت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعرف، وعميت عن مواضع الدلالة، وليست في الكتب علة تمنع من درك البُغية، وإصابة الحجة، لأن المتوحد بدرسها، والمنفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله، وقد عَدِم من له يباهي ومن اجله يغالب».
هنا يخرج الجاحظ من التعصب لشفافية الثقافة العربية الى التعصب للحقيقة، ومن الرؤية الذاتية التي تضيق بالآخر الى المنطق العقلي الذي يحترم الحياد ويثق بتجرده في الدلالة وانصافه في الحكم. المشافهة لا تحدث الا بالتلاقي الذي يجر الى المواجهة والمجابهة، ونتيجة ذلك هي التباين.
اما الكتابة، فهي حضور النظر وغياب الذات، ومثول الفكرة واحتجاب صاحبها، انها الحوار بلا متحاورين، والذوات بلا شخصيات او انتماءات، ونتيجتها التعارف والتلاقي. الشعر، من حيث هو علامة ثقافية رمزية على الشفاهية، لا ينتقل في المكان، ولا يتمدد في الزمان، هنا يستحيل بيانياً الى نقطة في خارطة الزمان وفي خارطة المكان، أي انه يغدو محلياً وآنياً:« نفعه مقصور على اهله». الشعر، هكذا، علاقة ذات خصوص بدوي لا حضري، وعرقي لا انساني، وهي علاقة تتبادل الانتاج مع البداوة والعرقية، ليصبح التلازم بينهما مقدار يعادل انتاج كل منهما للآخر. هنا لا تُغلَق الدائرة على المكان بل تُغلَق - ايضاً - على الزمان، ولذلك لم يكن العربي يقيد ما يقول على نفسه ولا يدرِّسه احداً من ولده.
النثر، من حيث هو لازم من لوازم الكتابة، وتالياً رمز ثقافي تلتقي به الأزمنة والأمكنة - يغدو علاقة ذات خصوص حضاري لا بدوي، وانساني لا عرقي، وعالمي لا محلي. وكما يتبادل الشعر علاقة انتاجه مع البداوة والمحلية، فإن النثر يتبادل علاقة انتاجه مع الحضارة والعالمية، هنا تنفتح، بالنثر ومعه، دائرة المكان والزمان،ولذلك نُقلت الكتب من أمة الى أمة، ومن قرن الى قرن، ومن لسان الى لسان، وكانت قديمة لا طارئة، وهو ما يخالف حقيقة الشعر التاريخية، بحسب ما يرويه الجاحظ.
د. صالح زيّاد |