Thursday 30th May,200210836العددالخميس 18 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

سوف انتظر دائماً هذي السماء.. سوف انتظر دائماً هذي السماء..
فقد أهدت إليَّ قصيدة معطرة بفأل التجلي..

أن تظفر بشاعرجميل صادق حقيقي ذلك شيء مبهج بحجم الكون، وبخاصة في هذا الزمن الذي يعز فيه العزاء ازاء مصابك في كل شيء يمت لك بصلة..!
وأن يكتب لك ذلك الشاعر قصيدة متجلية فذلك ما يملؤك بالغنى والرضا.. ويمنحك فُسْحةً مُخضلةً لكي تستجمع ما تستطيع من قواك الخفية لمواجهة ما سوف يجيء من فترات اضطهادك ذاتاً وموقفاً وتعبيراً وافصاحاً.. لقد ظفرت قبلاً بالكاتب الناقد الاستاذ «عبدالله السمطي»، وفي كل مرة انتهي فيها من التداخل والتمازج بكتابته أو برؤيته أو تعليقه أشعر بأنني سجلت شيئاً مميزاً في مضمونات الخطاب الثقافي بعامة والأدبي بخاصة.
هذه المرة ظفرت بالشاعر «عبدالله السمطي»، ظفرت به وهو يختصر أو يركز ذاته وجماله وشعريته في ثمانية أبيات فقط..!!
نعم.. هي ثمانية أبيات غير انها تعادل ثمانين بيتا على الأقل في تجليها وشعريتها .. انها قصيدته المعنونة ب «لا تنتظر أبداً هذي السماء»، ومن أجل عيني المتلقي، ومن أجل وجدانه وذاته.. أعيد رواية هذه القصيدة:
لم تتعظ جيداً مما سيحدث لي
لم تتعظ أبداً مما سيحدث لك
لم تقو يوماً على رشق الضحى بخطى
مرت ولم تنتبه والليل قد حملك
ماذا تريد إذاً؟ لا صبر في الكلمات..
لا نشيد اصطفى في مائه أجلك
ماذا تريد؟ انتهى ما لم تكنه وهذي
الأرض مثل الدجى قد قطعت سبلك
قد صرت وحدك..
هذا الأفق مزدحم
فلا صدى غير شمس رددت وجلك
قد صرت وحدك.. لا سجع تحاوره
ولا بعيد يواسي غيبة خجلك
تحجّرتْ كالمنا في كلّ حنجرةٍ
ووحده طائر الفينيق قد نهلك
لا تنتظر أبداً هذي السماء.. ومت
فالكوكب العربي الآن قد قتلك
وقبل تسجيل أي شيء حول هذا النص المكثف جداً ذي اللغة السهلة البسيطة جداً ينبغي الإشارة إلى أنه لا شيء أجمل من القصيدة تعبيراً وافصاحاً عن مكنونات الشاعر.. غير أنه يحلو لي أن أسجل هذه اللحظات بعد قراءة هذا النص الجميل:
(1)
عبرت هذه القصيدة عما لم يعبر عنه شاعر عربي حتى الآن «حسب ما وصل إليه إطلاعي»، ازاء تجربة الانسان العربي المعاصر مع الفضاء وما يعج به من اشياء قد يستوعبها أفق المتلقي أحياناً ولا يستوعبها في أغلب الأحيان.. في الوقت الذي لم يستطع الفضاء العربي أن يقف ازاء الفضاءات الأخرى كما ينبغي فأغمد خنجره في صدر الانسان العربي.. نعم.. وفي الصميم كذلك.. إنها التجربة المؤلمة المؤسفة بشكل لم يسبق له مثيل..وقد بلغت القصيدة ذروة الافصاح المؤلم عن ذلك في البيت الأخير:
«لا تنتظر أبداً هذي السماء»..!!
وعندما ينقطع الأمل من مصدر الأمل وينبوع الرجاء.. اذاً لا يتبقى إلا «الموت»، «الدمار» و «الفناء» يا لسوء المنتهى!!
(2)
أما الشيء العجيب في هذه القصيدة فهو لغتها التي يخيل إلى المتلقي أول الأمر أنها كلام عادي جداً قد صب في ايقاع موزون مقفى لكن الحقيقة شيء أبعد ما يكون عن ذلك.
القصيدة أنموذج فريد معاصر «للسهل الممتنع»، كما يقال في عالم الإبداع والتجلي..
إنها مقدرة الشاعر الموهوب.. طريقة الأداء الساحر الذي يبدأ بلهجة الحوار الحميم والعتاب والتأنيب الذي يرد كثيراً في أعقاب التجارب الفاشلة مثلاً أو بعد ارتكاب الاخطاء الفادحة:
«لم تتعظ جيداً مما سيحدث لي
لم تتعظ أبداً مما سيحدث لك»
غير ان الشيء الذي ينبغي ألا يغيب عن الملاحظة هو هذا السؤال:
كيف يكون الاتعاظ من شيء سيحدث..؟!!
هذا هو الشيء غير العادي هنا.. الشيء الاستثنائي الذي يسجله الشاعر وهو أن المفترض أن يكون الحدس والاستكناه والعبقرية هي المدى الرحب للمواقف والتوقعات، لأنه إذا وقع «الفأس في الرأس» فقد انتهى كل شيء. بعد ذلك سجل الشاعر السيرة الذاتية لتجربة الانسان العربي المعاصر مع القضاء وما يزدحم به وكيف تفتت ويتفتت الآن ازاء كل ذلك. سجله بلغة النهايات والخلاصة وبلغة الاعتراف الواعي أيضاً. فالشاعر ما هو إلا واحد من أولئك الذين تقطعت بهم سبل الفضاء وملاجئ الأرض.
كل هذه المعاناة وكل تلك التجربة قدمها الشاعر في لغة نستطيع أن نقول: إنها مستحيلة إلا على من يمتلك أدوات التجلي والإبداع.
أما الشيء الطريف في القصيدةويسجل لصالح معمارية القصيدة وتلقائية الشاعر فهو تدوير البيت وبخاصة في «البحر البسيط»، فمن المعروف المألوف أن نجد أبياتاً مدورة في البحر «المديد»، مثلاً أو في «البحر الخفيف».. أما «البحر البسيط» فهو من أكثر البحور صعوبة في هذه المسألة، وحسب اطلاعي أيضاً وسياحتي في فضاء الشعر العربي بقصائده ومقطّعاته لم اقرأ أن شاعراً قد دوّر بيتاً في قصيدة «من البحر البسيط»،!! ويتمثل تدوير البيت لدى الشاعر «السمطي » في البيتين:
«ماذا تريدُ إذاً لا حبر في الكلمات لا نشيد اصطفى في مائه أجلك ماذا تريد انتهى ما لم تكنه وهذي الأرض مثل الدجى قد قطعت سبلك»؟
والتدوير لمن لا يعرفه هو أن يشترك الشطران في كلمة واحدة..أو حسب لغة العروضيين - أن تتكون عروض البيت في الشطر الأول من جزء من كلمة تستكمل في بداية الشطر الثاني...
والمسألة هنا لدى الشاعر «السمطي»، لا تتوقف فقط عند هذا الإنجاز الشكلي أو العروضي وإنما في دلالتها على العفوية والتلقائية والخروج الواعي من تلك النمطية الموسيقية التي تحتم دائماً على الشاعر أن ينهي عروض البيت في كلمة تامة منتهية بنهاية الشطر.. دلالتها هنا ليست لعبة لفظية وإنما تتصل بإمكانية ايقاعية فاعلة في آلية الابداع الشعري لدى الشاعر المتمكن. وبعيداً عن كل ما سبق تتألق القصيدة بمضمونها وإيقاعها، وتكثيفها لتشكل نصاً ذا قابلية لذيذة لحفظه ورسمه ووشمه على صفحة الذاكرة المتلهفة إلى النصوص الحية..
أشد على يد شاعرنا ذي الروح الناقدة المتونية دائماً إلى الأجمل والأفضل، شاعرنا ذي الذات المفضلة بالإيمان والصدق والنقاء.. وانتظر منه مزيداً من الشعرية المتجددة.

عبدالله بن عبدالرحمن الزيد

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved