يتوجه في يوم الحزن 21 مايو من كل عام آلاف من شعوب شمال القوقاز (الشراكسة) إلى ساحل البحر الأسود (والذي يعتبر محطة رئيسة في طريق القبور الذي شهد رعب قصة التهجير والطرد القسري لأجدادهم) ليضعوا على شاطئه ورودهم وخناجرهم إحياءً لناقوس ذكرى الحرب الروسية القوقازية الدامية في 21 مايو من عام 1864م وما اكتنفته من مجازر الروس وتهجيرهم القسري لشعوب شمال القوقاز عن وطنهم الأم، وتعتصر هذه الذكرى في نفوس أكثر من مليون شركسي يعيشون في القوقاز وفي نفوس أكثر من أربعة ملايين منهم في الشتات في أكثر من 40 دولة في العالم.
لم ترصد عدسة مصور أو قلم محرر المجازر في القوقاز ووحشسة الروس خلال الحرب الروسية القوقازية التي امتدت رحاها لقرنين من الزمن وطوى التاريخ كعادته بين غياهبه دراما فناء الكثير من شعوب شمال القوقاز وتهجيرهم القسري عن وطنهم الأم.
تمتد سهول وجبال القوقاز الخضراء على شكل شريط يمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين مشكلة حاجزاً وفاصلا طبيعياً بين أوروبا وآسيا، ومن يزور منطقة القوقاز (القفقاس) يدرك نفسه في جنة خضراء أبدعتها يد الخالق (وتلقب هي بجنة الله على الأرض)، ويخال نفسه يمشي في لوحة جميلة مرسومة بريشة الطبيعة الخلابة، وكان يقطن تلك الجبال قبائل من الشراكس والذين كتب عنهم الرحالة الإيطالي - جيورجيا انتريانو (من رحالة عصر النهضة في القرن 13 - 14 ميلادي) يطلق على سكان القوقاز اسم (ZiKhs) (زيخس) في اللاتينية ويطلق التتار عليهم اسم (الشراكس) (Circassian) وبينما هم يدعون أنفسهم بالأديغة، والأديعة تنقسم إلى قبائل من الشابسوغ والوبخ (الذين انقرضوا) والبجدوغ والأبزاخ والقبرطاي والأبخاز وينضوي تحت لواء الشركس الشيشان ،الداغستان أيضاً، ويعتقد علماء الآثار بأن الناس ظهروا في مناطق شمال القوقاز قبل حوالي 870 ألف عام في بداية العصر البرونزي.
لم تسلم القوقاز من تكالب الدهر ونوائب الغدر ويعود مسلسل دراما الصراع في القوقاز إلى القرن الرابع قبل الميلاد في اهتمام وغزو البيزنطيين للمنطقة، ونشرهم للمسيحية فيها، وفي القرن العاشر الميلادي عام 971م قامت فرقة من الروس السلاف بالتحرش على الحدود مع شعوب شمال القوقاز ومات حوالي 55 ألف شخص في هذه السجالات. وفي القرن الحادي عشر وقعت مجزرة بين الشراكس والروس (حيث كان قائدهم الأمير مستيسلاف) والتي راح ضحيتها أكثر من 20 ألف شخص من الشراكسة وبعد هذه الحادثة بدأت المناوشات والمشاحنات العسكرية العديدة بين الشراكسة والروس.
اعتصرت الأطماع والغزوات منطقة القوقاز عبر الزمان وعلى مر القرون وذلك يرجع الى الاهمية الاستراتيجية الجغرافية والاقتصادية للمنطقة من حيث ان جبالها موانع وحدود طبيعية فاصلة بين القارة الأوروبية والآسيوية. ولموقع المنطقة المطل على المنافذ البحرية والتي تشكل للروس أهمية كبرى وكون القوقاز سلة زراعية كبيرة ومبشرة باحتوائها على مكامن الثروات الطبيعية من ماس ونفط وغاز و(التي ظهرت خلال القرن الأخير تباعاً)، كل الغزوات التي تعرضت لها المنطقة طبعت حياة الشعوب البسيطة القاطنة الجبال بسمة الحرب مما دعى الى خلق نموذج المحارب الشركسي (المعروف بزيه الحربي الجميل - الممتشق خنجره التي يدعوها قامة وسط خصره) والذي يتخذ من سيفه نديمه ومن فرسه خليله الذي يكن له الوفاء ويعتبرهما رمزان لكرامته. حتى أن الاطفال الذكور كانوا ينشؤون قبل أن يشبوا عن الطوق بعيداً عن ذويهم في بيوت يستزيدون فيها من فنون القتال وألوانها. وتعاقبت القرون لتخضع كامل منطقة القوقاز إلى نفوذ السلطة العثمانية في القرن الثامن عشر ففي عام 1742م بدأ الإسلام ينتشر في مناطق الشمال ولا سيما الغرب القوقازي وحاولت روسيا جاهدة ان تتخذ من ذلك حجة لتبرير عملياتها العسكرية في المنطقة بحجة وقف المد الإسلامي لأوروبا في محاولة لزل قدم أوروبا في الصراع بايقاظ مخاوفها من الإسلام، وحدث التصادم الرئيسي في عام 1772م بين قوات بطرس والأمير الشركسي أصلان كايتوكا وقد حدث الصدام في قلعة كزلر للروس في داغستان حيث كانت تحوي أكثر من عشرة آلاف جندي ووقع العديد من القتلى بين الطرفين وانسحب الروس، وخلال حقبة حكم كاترينا الثانية تم ارسال جيش قوامه 120 ألف إلى القوقاز وحصدت المعارك 30 ألف من الشراكسة وفي عام 1774م أرسلت الامبراطورية العثمانية جيشا للمساندة إلى القوقاز ولكن الوقت كان متأخراً جداً وكان الروس قد استولوا على الكوبان وشبه جزيرة التامن وعادت القوات العثمانية بدون أن تتدخر أي جهد في محاولة لاستعادة الأرض القوقازية، واستمر هذا الوضع حتى عام 1794م حيث تم توقيع معاهدة بلغراد والتي تم الاتفاق فيها بين الروس والسلطنة العثمانة على ضمان استقلال المنطقة ولكن ولسخرية الأقدار لم تذق المنطقة نعيم الاستقلال.
تأرجحت القوقاز بين جذب العثمانيين ومصالحهم ومقارعة الروس بامبراطوريتهم المدججة بالسلاح والعتاد لما يزيد عن مائتي عام، وفي عام 1808م تم منح السلطة العسكرية في بطرسبرج اليد المطلقة للآلة العسكرية لمحق المقاومة الشركسية ونزع السلاح من منطقة القوقاز وإجبار السكان على النزول من الجبال الى السهول المنبسطة مما يُضعف من قدرتهم على المقاومة. وكما تم (بالانفاق السري مع يد الغدر من الباب العالي للدولة العثمانية) اجبار الشراكسة على النزوح الى الدولة العثمانية والتوزع في أمصارها. وفي عام 1829م وافقت السلطنة العثمانية رسميا على منح الروس كامل الحق في بسط نفوذها على كامل مناطق القوقار، وهكذا لم تسلم شعوب شمال القوقاز (الشراكسة) من غدر اخوتهم في الدين في الدولة العثمانية وتغاضي الدول الأوربية عما يحيق بهذا الشعب المسكين من مكائد كانت أكبر من طاقته حتى أن اللورد بالمرستون أعلن أمام مجلس العموم الانكليزي «لا يعلم هذا الشعب المسكين ما فعلناه به» وفي يوم الحزن والحداد 21 مايو عام 1864م يوم وضعت الحرب أوزارها وتم أسر قائد المقاومة أسد القوقاز الشيخ شامل الذي قارع الروس لردح طويل من الزمن حاولت شعوب شمال القوقاز التفاوض مع الروس وعلق المفوض الروسي يومها قائلا: «توصلنا في اتفاقنا مع الأتراك الى أننا لن نمنع أولئك الذين يودون الرحيل الى تركيا وأما من سيبقى فإنه سيرحل الى حيث نشاء». وفي يونيو من نفس العام أعلن: يجب على كل القاطنين في القوقاز ان يتركوا منازلهم ويرحلوا خلال شهر وإلا سيعتبرون خونة ويهجرون إلى سيبيريا، وتم بالفعل نزوح ما يقارب المليون ونصف المليون شركسي من القوقاز (استناداً إلى موسوعة المعرفة التركية) وقضى الكثير منهم نحبه في طريق الهجرة «طريق القبور» وقد علق البروفيسور كمال كاربات عضو الجمعية العلمية للباحثين في جامعة ويسكونسن الأمريكية قائلا: بعد الوصول لأرشيف الحكومة التركية وجدنا انه تم نزوح مليون وأربعمائة قوقازي من شمال القوقاز بين عامي 1859 و1879م ولم يصل إلا مليون فقط إلى تركيا، وكان المرض والجوع قد حصد الكثير منهم.
واستمرت يد العجن والتمزيق في القوقاز خلال الحقبة السوفيتية التي عملت على خلق كوكتيل عرقي في القوقاز في خلاطة الأيديولوجية الشيوعية وذلك باللعب بمورثات التوزع الديموغرافي للبقية الباقية من شعوب شمال القوقاز وزرع القزق (وهم طبقة الفلاحين والمحاربين من الروس) بين جنبات القوقاز في محاولة لاجهاض أي حلم أو حركة مستقبلية لقيام دولة مستقلة لشعوب شمال القوقاز وعودة المهجرين إليها من دول الشتات. وحتى بعد ان تقوض عرش السوفييت وأسدل الستار الحديدي على بلاد أصابها الصدأ السياسي اشتعلت نيران الحقد فيها من جديد وورث الروس العرش بكل ارهاصاته وتم انفجار الوضع في الشيشان في حربين خلال العقد الأخير والمنطقة برمتها عامت على بحر من الحقد التاريخي نتيجة الظلم وجذوة القوميات تستعر تحت سطح الحياة منذرة دائما بتفجر الوضع. فمنطقة القوقاز الآن تعاظمت أهميتها لسطوع نجم الثروات الطبيعية فيها وتكاثر الذئاب حول وليمتها وروسيا لن تتخلى عن جنوبها المسلم الذي يشكل لها مصدر الخير في المستقبل والذي يمدها الآن بثمره وخيره. وبدعوى مكافحة الارهاب الكوني والمتمثل بالإسلاميين المتطرفين في الشيشان حصلت روسيا على التأييد لتفعل ما تريد في الشيشان وهذا ما صرح به المستشار الألماني غيرهارد شرودر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وخسر الشيشانيون أسهما كبيرة في قضيتهم من أجل حقهم وعاود مسلسل الصراع أحداثه وكأن التاريخ يعيد نفسه.
وما زال الإسلام ينزف من قلبه في فلسطينه ومن جنبه في عراقه ويراق الدم على حدوده في قفقاسه وأفغانه.
|