في العديد من العروض المسرحية الحديثة نتلمس دلالات تعبيرية.. سواء في العملية الاخراجية أو في بنائية النص المسرحي.. بل وحتى في التمثيل المسرحي.
إن القائمين على هذه العروض يتحدثون عن تجاربهم واضعين تجاربهم تلك تحت مظلة التجريب أو ما يسمى بالبناء الحداثوي للعرض المسرحي. وإذا تأملنا العمل المسرحي وأصغينا بدقة إلى حديث القائمين على التجربة نتلمس دروباً غير التي يحددونها إذ تطغى على الحوار نفسه عبارات شديدة الوضوح، مثل «أردت التعبير عنها ب...» و «في هذا المشهد كنا نريد التعبير عن...»، «عبر ايقاع المشهد عن...» وغير ذلك الكثير من المفردات التي تدلنا بوضوح إلى ما يلي:« إن التعبير المسرحي في التجارب الحديثة يتطور بتطور التجارب والبحوث المسرحية المختبرية».
وهذا لا يعني بطبيعة الحال، أن التجريب المسرحي يرتبط بالمدرسة التعبيرية أدباً وأجواء ودلالات أو أنه يعتبر تطوراً لمنهجها البحثي.. بل إن التجارب نفسها لم تكن تعبر عن ذاتها من جانب، ومن جانب آخر تشير إلى التقارب بين التعبيرية كمدرسة أدبية فنية وبين التجريب كحالة معملية بحثية.
فمنذ أن اتخذت المدرسة التعبيرية في الأدب شكل حركة امتدت بين عامي 1910 و1925 كانت وثيقة الصلة بمختلف الفنون الأخرى.
إذ ركزت على ابراز ما في داخل النفس البشرية من رؤى.. وهذه العملية جعلتها تشترك مع المدارس الفنية الأخرى.. والاجتهادات البحثية، مادامت النفس البشرية هي مكان عمل الدراما ومصدرها البحثي ووسيلتها الأولى وغايتها، لقد جرت العادة فيما قبل ظهور المدرسة التعبيرية على تصوير الفعل الخارجي انطباعياً في حين ركز مبدعو المدرسة التعبيرية والمنظرون لها في مجال الدراما على ما يلي:
1- الهدف من الفعل المسرحي «الدرامي» هو التعبير في ذات الفرد عن نوازع وحقائق قد تتقاطع مع سلوكه العام الظاهري، والمبني على أساس جملة من الأعراف والقيم التي تحد من اظهار ردود فعله وتطلعاته وحقيقة مشاعره، والتعبير عن تلك الحقيقة واظهار بواطنها يعتبر هدفاً سامياً وما عداه يمكن التخلي عنه.
2- الشخصيات في المسرحية التعبيرية مجرد أنماط ونماذج قد تسقط عنها انتماءاتها وأبعادها النفسية وحتى أسماؤها أحياناً، لتتحول إلى أرقام.. الهدف منها التعبير عن حالة معينة.
3- بنائية النص الأدبي الدرامي تعتمد على تكثيف الفكرة وابرازها عبر حوار مقتضب ودال.
إلا أن هذه البنائية النصية قد تختلف من كاتب إلى آخر، فنراها على سبيل المثال، تتجسد عند أونيل بتقديم الشخصية لا كنمط وإنما بوجودها الحي القادر على الاقناع والمبني وفق أسس حياتية انسانية متكاملة الأبعاد، وفي هذا الخصوص يقول أونيل:
«أنا شخصياً لا أؤمن بأنه بالامكان نقل فكرة لجماهير النظارة إلا عن طريق شخوص حية، فإن كانت الشخصيات مجرد رموز لفكرة.. فإنها تفقد الصلة البشرية».
أما في مسرحيات أخرى كمسرحية «السيد صفر» و«فتاة الأحلام» و«البحث عن مدينة» وغيرها العديد من الأعمال، فإن الشخصية تصبح نمطاً ودلالة لابراز ما خلف هذا القناع اليومي من حقائق جوهرية. وبرغم تصريح الكاتب المسرحي يوجين أونيل حول سعيه لتقديم شخصيات متكاملة الأبعاد في مسرحيات تعبيرية إلا أننا نجد في مسرحياته ان الشخصية المحورية تمتاز بالمزايا التي ذكرها أما عداها فنجد أن باقي الشخصيات تدور في فلك الصفات والأنماط التعبيرية، وهذا ما يتجسد بوضوح في مسرحياته «القرد الكثيف الشعر» وغيرها من أعماله الابداعية.
لقد عمقت الحروب دلالات التعبيريين وزادت من اتساع خطابهم الفكري.. الجمالي بعد أن غدا الواقع محملاً بالفجيعة البشرية التي تجاوزت حتى الكوابيس في غرابتها وشراستها لتكون واقعاً لمدارس فنية وأدبية أخرى منها المثال المدرسة السريالية على يد الشاعر بول إيلوار وآراغول وغيرهما.
تفريغ خزائن الممثل
لم يكن من السهل التخلي عن الأدوات التي رافقت الممثل وطريقة بناء الشخصية التقليدي داخل العمل المسرحي، إلا أن متطلبات العمل في المسرحية التعبيرية، قلب الطاولة المليئة بالإكسسوارات، فأصبح على الممثل على سبيل المثال وهو يؤدي شخصية رجل مسحوق يقدم على قتل المسؤول عن ذلك، ليس بالرصاص، أو غيره من أدوات القتل وإنما بحزمة أوراق مكتبية قضى الشخص عمراً بأكمله يدور في عالمها..»، وصار عليه أن يحمل اسم السيد صفر بدلاً عن اسم يعرف به بين الناس إذ تحول الاسم إلى دلالة، وغدا هدف الممثل التعبير عن الحالات المراد إدانتها بالجسد عبر خطاب صوري متكامل، أو بالمشاعر التشخيصية، ليس تجاه الشخص وحده وإنما باعتباره حالة وكياناً وفئة وطبقة اجتماعية وقانوناً.
وتقلصت الدلالة عبر المنظر المسرحي وغدا مكتب المدير مختصراً بطاولة، أو غير ذلك وارث الشخصيات مضغوطاً بلحظة دامية تعيشها الآن وتعبر عنها.
إن أهمية الفصل بين أنواع التجارب تكون مطلباً أساسياً للقائمين على التجارب المسرحية لاعتبارات عديدة، منها تحيد اتجاه البحث نفسه وفق الصفة العامة والتوجه العام لفريق العمل وهذا يجعل البناء المسرحي أكثر وضوحاً ويضيء حركة البناء الفعلي الابداعية سواء في عمل المخرج أو أي عنصر من عناصر التكامل في العملية المسرحية. وعلى أساس هذا التحديد تأخذ كل الفعاليات المتداخلة في العمل شرعيتها ونضجها ووضوحها، لئلا تكون تخبطاً في الظلمة.. واجتهاداً لا يحدد مسار حركتها الابداعية.
أمير شمخي الحسناوي |