في إحدى روايات هيرمان هيسه الألماني المترجمة جاءت هذه العبارة: «إنَّه النَّهر..، ولكنَّه يتجدَّد في كلِّ لحظة، من يستطيع أن يفهم ذلك، ويتصوَّره؟»..
وهو يطلق هذا السؤال، بعد أن يبسط هذا التصوُّر، لم يأتِ بجديد كالنَّهر المتجدِّد، ذلك لأنَّها حقيقة يلمسها كلُّ الذين يعرفون الأنهار، ويرون تجدُّدَها الدائم، وهي ليست وحدها.. فالبحر أيضاً تذهب فيه الموجات بين مدٍّ وجزر، بما يجعله يتجدَّد حتى وهو يصطخب..، لكن السؤال الذي يبقى هو: كيف استطاع هيسه أن يرصد هذه الحقيقة، ويضع هذا التصوُّر في إحراج الإنسان لأن يفهم، وأن يتصوَّر، ما لا يُلقي له بالاً، أو يوجه إليه انتباهاً؟!
إنَّ هذا هو دور المبدعين، المفكرين، الذين يرون ما لا يراه الآخر، ولكن برؤية مغايرة ترصد كلَّ شيءٍ رصد إحساس، وتأمُّل، وقدرة على الاستقطاب لكوامن ما يكون، ممَّا ليس هو في متناول كلِّ من يكون!!..
ويتطاول السؤال باستفهام آخر، له مذاق آخر.. هو: كم هناك من نهر يتجدَّد في كلِّ لحظةٍ، وكم هناك من بحرٍ؟..
كم هناك من إنسان يتجدَّد كالنَّهر، حلواً كحلاوة ماء النَّهر؟!
وكم هناك من إنسان يتجدَّد كالبحر، ملحاً كملوحة ماء البحر؟!
وكم من إنسان آسنٍ كمياه المستنقعات الراكدة الآسنة؟ لا يتحرَّك ولا يتجدَّد..
وكم من إنسان عميق بعمق النَّهر، وأعمق بعمق البحر، ومتسطح بتسطُّح مياه المستنقعات؟
وكم من ذي حياة، وحيوية، وليونة، ورقَّة، ويسر، كحيويَّة مياه النَّهر والبحر، يجري في شرايين الحياة بروحٍ وثَّابة، وبخلقٍ ليِّن، وبطبعٍ يسير، بينما كم هناك من راكدٍ، جامدٍ، غامضٍ، مخيفٍ، قاس،ٍ خانقٍ، كحال المياه وهي تتسلل في مجاريها إلى حيث تأسن وتركد وتظلم وتلتهم، وتخنق وتميت؟..
«إنَّه النَّهر.. كما يقول هيسه: يتجدَّد في كلِّ لحظةٍ، فمن الذي يستطيع أن يفهم ذلك؟؟.. كما يسأل هذا الإنسان الذي يبدو أنَّ له عينين تغوصان كما يغوص المحترفون في أعماق الأنهار والبحور، فيرَون تفاصيل التفاصيل.. ولكن: على قدر ما في جوف المياه في البحر، وفي النَّهر من روائع مذهلة ألواناً وأشكالاً، وحياةً وحيويةً.. بقدر ما فيها من تفاصيل التفاصيل التي تحتاج إلى من يتصوَّر ما وراء التجدُّد، وما وراء الحيويَّة، وما وراء لحظات النَّهر، ولحظات البحر..
فمن يتيح لعينيه أن تريا ما وراء لحظات الإنسان النَّهر، والإنسان البحر؟
ومن ثَمَّ يطلق لخياله أن يتصوَّر ما يكون وراء جريان نهر الحيوية فيهما؟!
إنَّه إن فعل.. فلسوف يقول: إنَّه النَّهر.. إنَّه البحر.. فمن ينضمُّ إلى قافلة المتصوِّرين؟!.. كي يكون في مَعَيَّة الفاهمين؟!.
|