من المستغرب حقا ان يتعرض المرء في حياته الى مصادفات مثيرة تتم بنفس المكان ولكن في زمان آخر وباحوال مختلفة. بل لعل من المثير حقا ان تتم بعض المصادفات المذهلة التي تترك المرء حيران في سر هذه الحياة ومتفاضلاتها او متبايناتها، وقصة ضابط طيران بريطاني هي من هذا القبيل وتكاد تكون اغرب من الخيال.
فقد التحق الضابط هيجنز بالطيران عام 1942م وشهد اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد عامين، ومع العام 1945م واثناء اشتداد الحرب وصلت تعليمات للوحدة المقاتلة التي كان يقاتل بين صفوفها للتقدم لاحتلال مدينة اولزن بألمانيا والتي تقع بين مدينتي هامبورج وهانوفر بشمال المانيا، ويقول هيجنز متذكرا: كانت المعركة محتدمة، وكانت دموية لدرجة شديدة إذ فقد الطرفان رجالا كثيرين، ولقد فقدت خلالها الكثيرين من اصدقائي، حيث استمرت المعركة التي دارت في شوارع المدينة خمسة ايام كانت كأنها خمس سنوات، ولكن تمكنا من دحر العدو والتقدم لاحتلال مواقع متقدمة، وبعد ايام توقفت الحرب، وتركنا المدينة التي لم اكن اظن يوما انني سوف اعود اليها ذاتها بعد اكثر من 45 عاما ولكن لسبب آخر لطلب المعونة من اعداء الامس لانقاذي من الاصابة بالعمى!!
وذلك ان هيجنز اصيب العام الماضي عن عمر يناهز سبعة وسبعين عاما بمرض (المياه الزرقاء) بعينيه والذي يؤدي للعمى تدريجيا، وقد اتصل بالاطباء بالمدينة التي يقطن بها بجنوب اسكتلندا، فتم اخباره على اثر الفحوص انه بحاجة لعملية جراحية بالعين لإزالة المياه من عينيه، ولكن عليه الانتظار سنة كاملة ليصله الدور نظرا للعدد الكبير من المرضى الذين ينتظرون اجراء عمليات على نفقة التأمين الطبي للدولة. اما ان كان يرغب فبإمكانه ان يتصل بالاخصائيين خارج نطاق التأمين الطبي لاجراء العملية، وبعد البحث والتقصي وجد ان العملية تتكلف 6 آلاف جنيه استرليني على نفقته الخاصة في عيادات الاطباء الاختصاصيين ببريطانيا.
ونظرا للحاجة الملحة لاجراء العملية والتي تتزايد يوما فيوما، فقد باشر عملا بنصيحة من جرب قبله بإجراء اتصالات خارج حدود بريطانيا وضمن نطاق دول الاتحاد الاوروبي، ليجد ان نفس العملية الجراحية التي تتكلف 6 آلاف جنيه استرليني ببريطانيا يمكن اجراؤها في مستشفيات ألمانيا على نفقته الخاصة بمبلغ يعادل الفي جنيه استرليني فقط. وكانت عجائب الاقدار ان المستشفى الذي تجرى به العملية هو في نفس المدينة بشمال المانيا.....اولزن!!
ويقول هيجنز: ومن السخرية وعجائب الاقدار ان اعود للمدينة التي كنت اساهم في اسقاطها في الحرب العالمية الثانية لكي اتلقى العلاج، ولقد عاملني الاطباء هناك باحترام وانسانية، ولا اكاد افهم لماذا يخذلنا النظام الصحي البريطاني بحيث يضطر العديد من البريطانيين لاجراء عمليات جراحية خارج بريطانيا ضمن الاتحاد الاوروبي كفرنسا والمانيا، واحيانا يضطر البعض منا للذهاب لبلدان بعيدة كجنوب افريقيا؟ اما العملية الجراحية فقد كانت ناجحة تماما بنسبة مائة بالمائة حيث تم استبدال العدسات مع اخرى صناعية وزراعتها، والآن بوسعي ان ابصر من جديد وبشكل افضل من ذي قبل، بل انني ولأول مرة منذ ثلاثين عاما قد تركت النظارات كما انني استطيع القيادة الآن، ولم يكن من الممكن بل من المستحيل ان انتظر سنة كاملة كي يصلني الدور لإجراء العملية داخل مستشفيات بريطانيا ونظامها الصحي الذي يعد من اسوأ الانظمة الصحية بدول اوروبا، بل انه اسوأ من كثير من الدول الاقل قوة اقتصادية من جمهورية التشيك او دول شرق اوروبا. ولا ادري لماذا نضطر الى طلب المعالجة ما وراء البحار؟ واثناء وجودي بالمستشفى اجرى لي الاطباء فحصا شاملا وتبين ان لدي مشكلة صغيرة بالقلب تمت معالجتها.
ويبدو ان عدو الامس قد يصبح صديق اليوم وصديق الامس قد يصبح عدو اليوم ولا يدري احد ما يخبئه الغد او ما تجري به الاقدار اذ ان الكل يسبح في محيط الجهل بما يخبئه الغيب للمرء من خير او من شر.
عن Independent |