Wednesday 29th May,200210835العددالاربعاء 17 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

الثقافات وما عليها من واجب الثقافات وما عليها من واجب
دومينيك دو فيلبان

ألسنا جميعا اليوم أبناء زمن التقلبات والريبة؟
ان ما أوحت لنا به القواعد والنظم ووسائل الترقب من اشارات تستند جميعها على العلم والمعرفة قد أصبح سراباً بعزيمة أشخاص، نساء ورجال، كنا قد تنكرنا لمخاوفهم ورغباتهم، وخشيتهم، كي لا نقول لوجودهم لقد اردنا أن نتناسى أحيانا بأننا نصنع التاريخ. وباتت اليوم تلك البوصلة التي كنا نستدل بها لا تشير إلى وجهة نتبعها. كما وان الأسطرلاب، تلك الآلة التي كان يقاس بها ارتفاع الشمس والنجوم، اصبحت تشير إلى تحول فضائي.
هل ما يزال من الممكن تحجيم التنوع في العالم واظهاره بصور مبسطة للغاية؟ فكيف للعالم الذي يتسم بالتعدد أن يعكس وجهاً واحداً أوحد بينما تنتشر فيه ألف هوية وهوية لكل واحد طريقته في التعبير باللغة التي يتكلم بها وبما لديه من وسائل والكل يريد اسماع صوته.
كان لدينااعتقاد بأن النفوذ والجبروت أمر واقع مفروغ منه لا يمكن ضحده، ففي عالم دائم الحركة، تعصف به التشنجات والتقلبات المفاجئة كان مفهوم القوة هذا يبدو وكأنه الملاذ الأخير بيد اننا اصبحنا نعلم منذ وقت ليس بالطويل ان هذا المفهوم لم يعد شيئا مضمونا يمكن الاعتماد عليه فبعد ان كان بديهيا اصبح مشبوهاً وعليه باتت القوة والجبروت موضع منازعة تنشب مع الكبت والحرمان وتتسع لتشمل هيجان العنف.
الحق يقال لم نعد نملك القدرة على رسم الحدود لنظام شامل، وأصبح الاستخفاف والأمر غير المتوقع يشكلان القاعدة ساعة واحدة قد تكفي لتجعل من بلد كان ينعم بالسلام ينغمس في الحرب كما أن ثروات بلد آخر قد تنهار في بضعة ايام أصبحت الشعوب تتنقل والمبادلات تتكاثر وجغرافية الكرة الأرضية لم تعد تعرف الجمود.
باتت هذه الريبة تغذي جميع المخاوف فعندما لا يعود هناك استقرار في الأجواء المحيطة، تكبر في النفوس الرغبة في الانصراف بعيدا عن ما يحدثه هذا العالم من اضطراب للاهتمام في زراعة حديقتنا الذاتية فداخل هذا المرج يمكن لنا ان نتصور امكانية التحكم بالعادات والأنظمة وأنماط الحياة وما من شيء يكون قادراً على مفاجأتنا.
ان الانطواء ليس حكراً على بلد أو آخر بل تصرف شائع يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة سيسعى البعض جاهداً لزيادة نفوذه وجبروته حرصا على مصالحه وسيمتنع البعض الآخر عن فتح حدوده ويغض الطرف عن المآسي التي يعيشها جيرانه واضعا الحواجز الثقافية منها والاقتصادية.
غير ان الريبة لا تحيا الا في داخلنا، ونحن نساهم بذلك وبانطوائنا على انفسنا نقوم بتغذيتها كما واننا بانغلاقنا نقطع الطريق امام تفهم الآخرين وتفاهم الدول وفهم العالم.
وهذه النزعة إلى الانطواء توصل إلى طريق مسدود وليست سوى حل عبثي، لا جدوى منه وقد أظهرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر- ايلول بقساوة مرعبة أن ما من وسيلة لحماية تامة وقاطعة ضد العنف الأعمى، كما وانه يمكننا ودون دراية منا ايواء ما يجلب لنا تدمير ذاتنا.
وفي مواجهة الريبة يكون الفهم أول المقتضيات وتقع علينا مسؤولية القاء الضوء على الأمور فالانغلاق والتعتيم يشكلان ارضاً خصبة للعنف ولمعاناة الشعوب وعلينا محاربتهما.
تهيأ للبعض اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر- أيلول انه ينبغي النظر إليها كمواجهة بين حضارتين لا سبيل للتجانس بينهما، أو كاحتدام بين الغرب والإسلام في كتلة متراصة انها لقراءة خاطئة وخطيرة حسب ما يبدو لي.
انها خاطئة كونها تقابل بين حضارتين قيل انهما تقومان على مكونات اجتماعية ودينية واقتصادية وثقافية لتكتلات متجانسة، بينما ينشأ واقع عالمنا اليوم مرتكزاً على التننوع والمبادلة والتعقيد والتباين.
لم تعد الخرائط العسكرية ترتسم لنا في الأفق، ولم تعد تستحوذ الحدود ولا تحديد ترسيمها على تفكيرنا كما في الماضي والرجال والنساء اصبحوا في ترحالهم ينقلون معلومات عبر البحار ويتبادلون بصورة آنية مشاعرهم وينشئون روابط جديدة ويتحدثون بلغات لم يعهدوا التكلم بها، فأصبح العالم يتعاطى مع بعضه البعض.
وفي نطاق مساحة ثقافية معينة تأتي عناصر عرقية واجتماعية لتعمق الفجوات بحيث تصبح اكثر اتساعا من تلك التي تفصل بين مجوعات سكانية تقيم على قارات مختلفة وتقوم الجماعات بنسج الروابط فيما بينها متخطية الأوطان التي تقطنها وهناك واقع اقتصادي يغذي المظالم ويرفع حتى جدرانا متشابهة في قلب دول مختلفة فينعدم معها التفاهم. ان كل مجتمع منشغل بمشاكله تلك التي لا تستدعي تحليلاً ثقافياً بل تتطلب حلولاً سياسية حازمة وقاطعة.
وهذه القراءة هي أيضا قراءة خطيرة لأنها تعزز تكتل هذه الجماعات ضمن بوتقة من شأنها أن تؤدي إلى التكيف مع خصائص تشكل أداة فصل للثقافة وللدين.
وغالبا ما تستعر نزعة الجماعات هذه إلى التكتل ضمن بوتقة في الحقبات الزمنية التي يسود فيها التوتر والتغيير، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال الانطواء على الذات فبينما العالم سائر نحو الانفتاح ويتم تداول المعلومات وفي الوقت الذي تتشابك فيه اللغات وتتجابه فيه مستويات المعيشة قد تجد بعض النفوس عبر الدفاع عن هوية منغلقة مناهضة لكل الفوارق حل توهم نفسها به.
فالدين والثقافة يتحولان في ذلك الحين من أدوات سلام وبناء للذات إلى أسلحة ضارية تشهر في وجه الآخر، ويتم الانحراف بهما لأغراض سياسية إلى درجة التشويه والتنكر لما تمثلانه فخطاب شخص كابن لادن هو ثمرة هذه الاستراتيجية التي تسيء بداية إلى ملايين المسلمين الذين يعيشون ايمانهم بسلام، فالرأي العام لم يضلله هذا الأمر وقد قاوم هذا الخلط الفاضح والمشين بين الإسلام والارهاب ويتوجب علينا أن نحيي وندعم هذه الرصانة.
لدينا واجب يكمن في وضع الحلول معا في مواجهة ردات الفعل نحو الانطواء وسلوك طريق الاختصار للنظريات التي من شأنها تغييب التفاهم بدلا من ان تزيد منه وهذا شأن طموح من المفترض به أن يأتي بجواب على عدد من المقتضيات أولها الجذور المتأصلة والتنوع الثقافي.
لا يجب الاكتفاء بإدانة تكتل الجماعات بل يجب محاولة فهم ما يعبر عنه من غم وقلق لدى أعداد من الناس انفصلت عن تقاليدها وعاداتها وباتت تفتقر إلى ما عهدته من نظم وسمات مرجعية، فالحياة تتطلب أيضا الاسترشاد بذكرى الأرض وبإحياء الذكرى وبالتذكير بلغة ما والتحدث بها، كما وباحترام بعض المعتقدات والممارسات المتنوعة لما لها من قدسية.
هذه الجذور الخاصة بكل شعب ينبغي فينا العودة إليها، وعلينا فك تشعباتها المتشابكة كي نصل إلى منبعها ولا أعني بكلامي هذا نوعاً من الحنين والاشتياق يمارس دون جدوى بل أود التذكير بأننا بحاجة ان نتقبل كليا ما تشكل منه ماضينا كي نتمكن من بناء مستقبل معا. فبقدر ما يكون العالم منفتحا ومتحركا تكون حاجتنا أكبر للتأكد من معرفتنا لنفسنا.
بيد أن هذا التأكيد على الجذور المتأصلة يجب أن يتم من خلال احترام الآخرين والتسامح يمكننا أن نفخر بعاداتنا وأن نكون مقتنعين بالديانة التي ننتمي إليها دون الادعاء بهيمنتها على باقي العادات وباقي الديانات جميعها.
يجب الاعتراف بتساوي كل الثقافات في العزة والكرامة تيمنا بما كان قد أكد عليه رئيس الجمهورية الفرنسية في 15 أكتوبر - تشرين الأول الماضي في خطابه في منظمة اليونسكو.ان كل شعب يمتلك حصة من تراث مشترك هو ملك للإنسانية جمعاء، ويقدم صورة فريدة عن العالم لا يمكن لأحد آخر ان يحل مكانه لطرحها وباحترامنا لوجهة النظر هذه نكون قد القينا الضوء على وجهة نظرنا نحن اذ يؤثر هذا الأمر فيها ويعطيها معنى أوسع.وتأتي هذه المقتضيات من تنوع الثقافات نفسها والذي مما يشكل حافزا للتبادل.
ان الحوار بين الثقافات هو عامل تفاهم واثراء ويثبت أن ليس هناك ثقافات كبرى وأخرى صغرى، انما مجموعة من البصمات والكلمات والألوان والاصوات والمعتقدات والإيماءات من شأنها أن تروي حكاية العالم، وتستحق أن نستدل من خلالها وان نعي مكامن القوة والحياة عند الآخرين.
هذا الحوار كي يكون مثمراً يجب أن يجبل بروح من الاحترام والانفتاح ويجب التحلي بيقظة فريدة تفرض نفسها علينا لتنأى بنا بعيدا عن جملة تصورات وأفكار مسبقة من شأنها ان تشوه الصورة التي قد تتكون لدينا عن الآخرين فبالقدر الذي يستحيل معه تحجيم الثقافة الغربية لحصرها بالحروب الصليبية أو بالتطور التقني لا يجوز التطرق إلى أرض الإسلام فقط من وجهة نظر روح الغزو الضيقة.
وآخر هذه المقتضيات من أجل ارساء حوار حقيقي بين الثقافات يكمن في وجوب الاستدلال على كيفية التحكم بالواقع العالمي الجديد: انها العولمة التي تميزها أواصر متعدده منها الدائمة ومنها السريعة الزوال، ومنها العميقة ومنها السطحية.فما يحصل هنا قد يكون له صدى هناك، والانعزال لم يعد ممكنا، ولا يجوز ان يكون لأقلية ما دون غيرها منفذ إلى تقنيات الاعلام دون أن نثير بذلك مشاعر الكبت والحقد.
فعلينا أن نعمل سويا لاستشراف رهانات عصرنا الكبيرة عن طريق ممارسة حوار شامل لا محرمات فيه: كالرهانات العلمية والتقنية الكبيرة والتطورات في مجال التقنيات البيولوجية مثلا التي تستدعي تفكيراً مشتركاً متعمقاً كما وعلينا الإجابة على التساؤلات بشأن ما وصلنا إليه من معرفة وبشأن تنظيم مجتمعنا وبشأن القواعد السياسية ومكانة المرأة والظروف التي ستواجه الأجيال المختلفة المتتالية.
نريد حواراً للمحافظة على ثقافاتنا الأكثر ضعفاً ولحماية اللغات التي باتت يوما عن يوم مهددة بالزوال.ان العولمة سيتقبلها الجميع عندما تستغني عن مفهوم الهوية الموحدة الوهمي احتراما للهوية الفردية لكل طرف.ان منطقة البحر المتوسط تقدم أجمل الأمثلة حول مخاطر ونجاحات هذا الحوار.

* وزير الخارجية الفرنسي

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved