اهرب فقد افتضح الأمر!!
هذه العبارة الواضحة والباترة، خطَّها الكاتب الساخر «مارك توين» وطيَّرها إلى عينة عشوائية، من رجال المال والأعمال والموظفين والفنانين والصحافيين، في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، ممن كان يشك بضلوعهم في قضايا الفساد والرشوة وشراء الذمم، ولم يجد من وسيلة ليتأكد من شكوكه، سوى أن يطيِّر لكل واحد منهم برقية تتضمن هذه العبارة التي لا توحي بالاتهام فقط، ولكنها توحي بأن من طيَّرت له البرقية، مراقب وأنه في طريقه إلى السجن أو المحاكمة!!
وقد ذيَّل «مارك توين» عبارته بتوقيع صديق ما يوحي لمن وجهت له البرقية، بأن قلبه عليه، ولولا ذلك لتركه يواجه مصيره وحيداً، وما يجره هذا المصير من فضائح قد لا تطوله وحده، ولكنها ربما امتدت إلى كافة أفراد عائلته، وربما تسببت في تصفية أعماله، إذا كان من رجال المال والأعمال.
لقد كان لهذه العبارة مفعول السحر، فقد استعد مارك توين لرصد تحركات كافة الذين طيَّر لهم برقيته، ولاحظ من موقعه لجوء العديد ممن وصلت لهم البرقية إلى الهرب، حيث غادر بعضهم إلى مكان مجهول، وهناك من صفَّى أعماله، والعديد من هؤلاء توقفوا عن الظهور، أما البعض الآخر فقد استمرت حياته كما هي واعتبر الأمر مجرد مزحة من صديق، إما أنه أراد مداعبته بمناسبة يعرفها وإما أنه أراد التأكد مما يثار حوله.. لقد أطاحت هذه العبارة برؤوس العديد من الفاسدين دون أن يتكلَّف مرسلها سوى قيمة البرقية، فلم يدخل إلى المحاكم أو أقسام البوليس ولم يكتب في الصحف أو يظهر في وسائل الإعلام، ليشير إلى رؤوس الفساد، لأنه يعرف أنه سيدخل في حقل ألغام قد لا يخرج منه سليماً!!!
لقد فكرت في تطيير مثل هذه العبارة بطرق أكثر عصرية، ربما من خلال الفاكس أو الإنترنت أو رسائل الجوال، لكنني أصبت بما يشبه الإحباط عندما أحضرت ورقة وقلما لتدوين عينة عشوائية للفاسدين، فقد وجدت الاختيارات واسعة فأنت لو نزلت في أي بلد لنأخذ البلدان العربية بالذات فإنك سوف تصطدم بالفساد حال وصولك المطار، ثم في الفندق والمصالح الحكومية مثل الجوازات ومصلحة الكهرباء، كل هؤلاء عينة من الفاسدين فئة نجمة واحدة، وهم يجرون على أسر بعدد النمل، أما لو دخلت عش الدبابير أو ما يطلق عليه مسمى فسدة خمسة نجوم فسوف تدهش أن ثلاثة أرباع المشاريع لا ترسى بدون ان يكون هناك شيء ما تحت الطاولة و«أدهن السير يسير!!» هكذا يقول المثل، لقد كان «مارك توين» قلقاً في زمانه الطيب من وجود عدد محدود من الفاسدين، فما هو العمل الآن والفساد أصبح عابراً للقارات.. لمن نكتب «أهرب فقد افتضح الأمر!!» إلى لا أحد، فقد اتسع الشق على الراقع!!
وسوف لن أقع في المحظور لذلك سوف أرحل إلى زمان مارك توين، باعتباري من الكائنات الخرافية التي تصاب بالدهشة عندما تسمع عن رجل مرتش، أما الآن فإن المرتشي يمشي في الأسواق كالطاؤوس، ويجلس في المناسبات شامخ الأنف، وهو يحرص على أن يسبق اسمه بالألقاب، ويسبقه عطره عند قدومه إلى أي محفل، لكنني سوف أبقى في زمني الخرافي، فقد ذهبت عندما كنت في سن المراهقة إلى أحد المرافق، وحالما وقفت أمام الموظف، وكان رجلاً من كبار السن للأسف الشديد، قال لي فيما يشبه الأمر قبل أن ينظر في معاملتي: وقد طرت كالحمامة، وأتيت بالبكت، انتهت معاملتي سريعاً بمجرد أن أشعل الرجل سيجارته، وحالما أخذت طلبي طالبته بقيمة البكت لكنه هاج في وجهي، وقال مهدداً: امش يا واد من هنا وإلا جبت لك الشرطي!
أضحك الآن وأنا أتذكر ذلك الرجل البائس، الذي لم تزد رشوته عن علبة سجائر.. علبة سجائر بريال ونصف فقط!!
أما بعد ذلك فقد تطورت الرشوة فأصبحت «كف».. كف من؟ لن أقول لكم.. لكن هذه الكف ترمز إلى الخمسمائة ريال.. مبلغ بائس أيضاً لكنه كان كبيراً قبل ثلاثين عاماً.. الآن أصبح الهبر للركب، وهو كما أسلفنا أصبح عابراً للقارات، إنه مثل الهربس وجنون البقر والوادي المتصدع.. إذا جيء له بلقاح استوعبه حالاً ليبدأ الناس في البحث عن لقاح جديد.
|