اليوم نحن نواجه مرحلة جديدة فيما يتعلق بقدرات التكنولوجيا البشرية؛ فنحن على حافة اكتشاف وتنفيذ بدائل للتطور نفسه؛ وهو ما يعد تدخلاً مباشراً في العملية الجينية، وهذا أحد المواضيع الرئيسية في كتاب فوكوياما «مستقبلنا البشري» والذي يعد مساهمة معاصرة وذكية وجيدة التنظيم لهذا الموضوع الهام، وفوكوياما أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة جون هوبكنز، وعضو في المجلس الرئاسي الأمريكي المختص بمناقشة الآثار الأخلاقية للتكنولوجيا قام في كتابه بمناقشة الاستنساخ والهندسة الوراثية للميكروبات، وأبحاث زراعة الخلايا، وتأثير الأدوية على الجهاز العصبي، وطب مكافحة الشيخوخة، واهتمامه الرئيسي هو الآثار الكامنة عن التلاعب في الطبيعة البشرية والتي جاءت نتيجة التكنولوجيا الحيوية الجديدة، وفي هذا الموضوع تتقاطع فيه السياسة مع الفلسفة، في الوقت الذي نحاول فيه أن نتناقش بشأن بعض القضايا المستقبلية مثل «تصميم» الأطفال، وإنتاج رجال أقوياء في التسعين من عمرهم، والأنواع المختلفة المهجنة والمخلطة وأمثال ذلك، فما هي خطورة ذلك كله؟ هل يجب تقنين هذه الأشياء أم وقفها تماما؟ والكتاب مقسم إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يعطينا فكرة عامة عن أهم التطورات التكنولوجية في هذا الموضوع، كما خصص من أجل مواجهة خلفية كتاب أورويل «1984» وكتاب هوكسلي «عالم جديد شجاع»، وقام فوكوياما بوصف تلك التطورات باختصارقائلا: «هذه التطورات سوف يثير حولها جدل كبير لأنها سوف تهدد أعز مظاهرالمساواة بين البشر والقدرة على الاختيار الأخلاقي، فسوف تعطي المجتمعات تقنيات جديدة من أجل التحكم في سلوك مواطنيها؛ وستغير من مفهومنا للشخصيةالإنسانية وهويتها، وسوف تقلب الموروثات الاجتماعية الحالية رأسا على عقب، وسوف تؤثر على نسبة المثقفين، والتقدم المادي والسياسي، وسوف تؤثر على طبيعةالسياسات الدولية»، والجزء الثاني من الكتاب يتبنى فكرة أن هناك شيئاً مثل الطبيعة البشرية الكونية.
وتقترح أن هذه الفكرة هي جوهر أي مفهوم لحقوق الإنسان، وقد بدا أن أرسطو كان الرجل الوحيد الذي توصل إليها بصورة صحيحة، والجزء الثالث يطرح مزيدا من الأسئلة العملية عن أفضل الطرق لتنظيم صناعة التكنولوجيا الحيوية. وقد أمضى فوكوياما وقتا طويلا في مناقشة آثار بعض العقاقير الطبية النفسية مثل «بروزاك» و«ريتالين»، ويقول بأن هذه الأدوية قد تمادينا في وصفها للمرضى أكثر مما ينبغي، مما قد يجعلنا نضع في أذهاننا الصورة الخيالية التي رسمها هكسيلي عن العالم المليء بالجرائم التي نأخذ لها عقاقير تعيد لنا احترامنا لذاتنا، وتجعل الأطفال بطيئي التعلم أذكياء، فهل يجب علينا بالفعل أن نتخلص من الحياة التي بها قلق طبيعي، بجموحها، ولياليها الكئيبة في بعض الأحيان؟ وقد تناول تلك المواضيع بصورة جيدة، ولكني لا أدري لماذا أدرج فوكوياما موضوع الأدوية في قائمته، في الوقت الذي لم يدرج فيه القضايا الأخرى والتي لا ترتبط أيضا بصورة مباشرة بالهندسة الوراثية وتكنولوجيا الإنجاب، وماذا عن القضايا الملحة مثل الذكاء الاصطناعي وزيادة كفاءة القدرات البشرية بوسائل زرع الأعصاب؟ وتكنولوجيا المعلومات تفرض أيضا أسئلة هامة عن رفاهية الإنسان، في الوقت الذي تقترب فيه الدوائر الإلكترونية من شكل الشبكات العصبية، وماذا عن التوسع في الجراحات البلاستيكية أو استخدام الهرمونات؟ فكل هذه الأشياء تعتبر صورا من التعارض مع النظام الطبيعي، ولكن طالما أن فوكوياما أسقط هذه الأشياء من مناقشته، فإن اختياره لمواضيعه كان عشوائيا بعض الشيء، وأطول أجزاء الكتاب وأكثرها إمتاعا كان ذلك الذي تبحر في تساؤلاته عما إذا كان هناك أصلا طبيعة بشرية، ومن ثم سوف تقوم هذه التكنولوجيات بانتهاكها؟ فإذا ما كان الجسم البشري مصنوعاً كلية من البلاستيك مثلا، ولا يوجد شيء محدد في جوهره، إذن أي شيء نفعله من أجل تغيير أنفسنا لن ينتهك أي نظام طبيعي موجود، ولن ينتهك الحقوق الأخلاقية التي من المفترض أنها تنبع من طبيعتنا، ويعرف فوكوياما الطبيعة البشرية في هذه الكلمات: «إن الطبيعة البشرية هي مجموع السلوك والصفات المطابقة تماما للنوع البشري، والنابعة من عوامل جينية أكثر منها عوامل بيئية»، وبعدما استقر على ما أسماه «السلسلة الأخلاقية المتكاملة» واقترح أن ذلك هو أكثر شيء تحت التهديد من التكنولوجيا الحيوية، قال الآتي: بدون «الشرور البشرية» سوف لا يكون هناك «تعاطف، شفقة، شجاعة، بطولة، تضامن أو قوة شخصية»، وهذه العبارات تطرح مزيدا من الأسئلة التي لا أعتقد أن فوكوياما يستطيع أن يجيب عليها، فبادئ ذي بدء، كيف يتأتى لنا أن نضع خطوطا فاصلة حول الشرور البشرية التي هي مفيدة لنا والتي غير مفيدة؟ فبالتأكيد أن الطب موجه أساسا من أجل تقليل المعاناة، ولكن من السخف أن نحد من هذه الجهود بهدف خوفنا من أن ذلك سوف يجعل الآدميين أكثر آلية، هل نحن بصدد منع علاج الصلع لأننا نعتقد أن الشعرالخفيف من أحد عوامل بناء الشخصية؟ وماذا عن العيوب الجينية الخطيرة الأخرى التي يمكن أن تقودنا إلى فضائل إنسانية مبهرة؟ وثانيا فإن مفهوم فوكوياما للطبيعة البشرية يبدو لي به خلل من شقين، فهو يتحدث باستمرار عما يتميز به النوع البشري، وكما لو كان ذلك وحده سوف يصنع فكرة الكرامة الإنسانية؛ ولكن لا يوجد سبب يدعو إلى أن السمات الشخصية والتي تبني حقوقنا لا يجب أن نتبادلها مع أعضاء الأنواع الأخرى، ومن الواضح أن العديد من تلك السمات الشخصية مشتركة بالفعل؛ مثل القدرة على الشعور بالألم، والتمتع بالعلاقات العائلية، والحاجة للطعام والشراب، وهذا لا يعني أننا نفتقد أية خصائص تميزنا عن الأنواع الأخرى، ولكن ذلك مجرد أننا لا نحتاج أن نكون متفردين بميزة لها طبيعة خاصة حتى تكون جزءاً من طبيعتنا المتوارثة، ولكن أكثر من ذلك، أعتقد أنه من الخطأ أن نحدد طبيعتنا الإنسانية الكونية في غرائزنا، وليس لمجرد أن السمات الشخصية مكتسبة لا يعني ذلك أنها كافية في حد ذاتها لترينا أنها ليست كونية، طالما أنها يمكن أن تأتينا عن طريق سمة ثابتة لبيئتنا الإنسانية، إن طبيعتنا العامة هي نتاج للتخطيط المفصل المشترك لجيناتنا، وعالمنا الطبيعي والذي نشأنا فيه جميعا، وبالطبع، تختلف الثقافات في أوجه عديدة، ولكن هنا أيضا نواحي يكون فيها تأثير البيئة ثابتا، فعلى سبيل المثال تعرضنا للجاذبية.
ثالثا: إننا لا نحتاج أن نتخذ موقفا ثابتا تجاه وجود طبيعة إنسانية كونية غريزية من أجل تقييم التقنيات الجديدة، ولنفترض لوهلة أن الجنس البشري ليست لديه هذه الطبيعة الكونية: سوف نظل نتساءل إذا ما كان اختراع معين سوف يصلحلنا، وأنا أتفق مع فوكوياما أن هناك المزيد من الطبيعة البشرية تعتمد على الجينات، ولكنني لا أرى أن هذا الاعتقاد ضروري من أجل أن نشعر بتأنيب ضميرمبرر بشأن التكنولوجيا الحيوية، إن ما نحتاجه مجموعة مختلفة من الآراء بشأن ما هو مفيد بالنسبة للحياة البشرية، وما يجب أن نوفر له الحماية، وليس مجرد نظرية خاصة بشأن الاختلاف عما هو غريزي وما هو مكتسب.
المؤلف: Francis Fukuyama الناشر: Farrar Straus& Giroux |